مثير للدهشة ذلك التصور الواسع والمعضد للمعنى الاصطلاحي الذي استقر في بعده التاريخي المجرد والمقنّع والساعي إلى الإجهاز على مخزون الذاكرة، المتغلغل في جوهره العاطفي والميراثي بأن "أبو الرواية" السعودية حامد دمنهوري رحمه الله كان "شاعرا" ولكن الدكتور والباحث الرصين عبدالله الحيدري فتح كوة وثائقية، حيث جمع المتفرقات ووحد الأشتات، واستحضر كل الفضاءات السردية والحكائية والشعرية، لذلك المبدع الطليعي والكفاءة الاستقبالية، مما حرك في داخلي انزياح صورة الروائي الرائد، إلى صورة الشاعر الناضج والعميق والمجترح لعوالم ثرية ومشحونة بالروح الوثابة، ومكتظة بالنزعة المتجاوزة:

لاح الصباح وفي يديه ضياؤه.. وعلى أزاهره طغت أشذاؤه.. نام الدجى في ضفتيه فهزه.. وأزاح أشلاء الظلام صفاؤه.. والروض يحسب للسنا خطواته.. وتصيح من شوق له ورقاؤه.. نسي الرؤى من وجده وهفا إلى.. صبح تقبل زهره أنداؤه. فأنين جدوله صلاة للسنا.. وصداح ذاك الطير فيه دعاؤه.

ترى كيف أفسح حامد دمنهوري المكان للرواية، واستجاب لإغرائها وحيويتها وسحرها، وهو يملك في حينها هذه الذخيرة الشعرية المشعة، والتكثيف الإنساني الجامح والمضاهي لأحدث التجارب الشعرية في العالم العربي، يبدو أن هيمنة الشعر في المشهد المحلي في حينه جعله يندفع إلى الرواية ليلهب خيال القراء، فأصدر "ثمن التضحية" و"مرت الأيام" وقد حظيت روايته الأولى باهتمام عربي وعالمي فنقلت إلى الإنجليزية والروسية، ولكن المتأمل لإرثه الشعري لا يلمس إلا إضاءات وومضات خاطفة وساطعة، نظرا لقلة محصوله الشعري، مما يوهن قدرة القارئ على اختراق أو فتح مغاليق الحالة الشعرية والنفاذ إلى عمقها اللامتناهي، فالقراءة التاريخية لتجربته العاطفية تظهر ذلك الكائن الموجوع نتيجة إملاءات الفائض الوجداني والمحاصر بالفقدان والوحدة:

هذا هو الماضي أثرت شجونه حرى أكابدها بقلبي الموجعِ. الذكريات وأمسي الزاهي الذي هدهدته وأذبته من أدمعي. وهياكل الأحلام أضناها الأسى فوأدتها حيرى تئن بأضلعي. وشتات آمالٍ – بقين – حطمتها وذروتها نهب الرياح ببلقع. شتان بين مشرق ومغرب بين الغد الذاوي وأمسي الممرعِ. لم يبق لي يومي سوى شبح الهوى ينعى لي الماضي ولا يبكي معي. "توفي الأديب حامد دمنهوري رحمه الله شابا، لم يبلغ الخامسة والأربعين عام 1385، بمدينة الرياض بالسكتة القلبية، وهو يحتسي الشاي بعد أن تناول طعام الغداء، وكانت وفاته مصدر أسى شاع في طول البلاد وعرضها، لما يتمتع به من خلال نادرة في الخلق والعقل والثقافة والإدارة".. وكان آخر مناصبه مديرا عاما لإدارة الثقافة، ثم وكيلا لوزارة المعارف للشؤون الثقافية.