إن الطبقة الوسطى تنتمي إلى مفهوم الطبقة الاجتماعية social class، والذي يعرف اصطلاحاً بـ: "منطقة وسطى في سلم التكوين المجتمعي ودرجاته. وتجمع الطبقة فئة من الناس يتساوون إلى حد ما في الدخل والمكانة الاجتماعية، ويتشابهون في أسلوب الحياة ونظرتهم لها".
والطبقة الوسطى - دائما - مصدر الاستقرار والتوازن لمجتمعاتها، كما أنها مصدر القلق والتوترات وعدم الاتزان، إذا ما اختلت عجلة الانسجام بينها وبين رديفتيها، وبينها وبين نفسها في الوقت ذاته، وذلك لعدة أسباب، منها أنها هي التي تحمل الوعي والعلم والمعرفة، وثانيا لشدة تلامسها مع الطبقات العليا، وثالثا أن هذه الطبقة لديها تطلعات كبيرة وأمنيات عديدة، فإذا ما أخفقت في تحقيقها أحدثت ذلك القلق والتوتر وعدم الانسجام، كما أن تطلعاتها للارتقاء إلى الطبقات العليا والهلع والخوف من الانحدار للطبقات الدنيا تجعلها دائما في قلق مستمر، وبالتالي فهي طبقة متحركة على الدوام. وهي تعد الشريحة الكبرى في بنية المجتمعات، فهي تحمل بداخلها تعدُدِيات كثيرة، في مناهج التفكير وفي المذاهب والديانات وأساليب الحياة والمهن، وبالتالي فهي تمتد من الطبقة العاملة (البروليتاريا) إلى تلك النتوءات التي تتلامس مع (الارستقراط). وهذه النتوءات هي ما يسمى بـ(التكنوقراط)، ولهذا كان الحرص على توسيع هذه الطبقة واستقرارها، لتحقيق الانسجام وبالتالي الاستقرار العام للدولة ذاتها وتثبيت دعائم أركانها.
ومهما اختلفت تلك المسميات إلا أن تلك الشرائح كانت موضعا لإسهامات عديدة من دارسي سياسات الشرق الأوسط، على وجه الخصوص منذ الخمسينات بهذه التسميات المختلفة، فتحدث "موربرجر" عن "الطبقة الوسطى المستقلة"، وهالبرن عن "الطبقة المهنية الجديدة"، وأطلق عليها جاك بيرك فقط "الانتلجنتسيا"، وأسماها بيل وليدن "الطبقة الوسطى المهنية"، وأطلق عليها أنور عبد الملك تعبير "الطبقة الجديدة". وعلى أي حال، إنها الرهان الأهم في صنع مستقبل الشعوب، كما إنها تكتسب أهميتها من ذلك التداخل السائل بين الطبقتين، الدنيا والعليا. ولعل من أهم تداعيات وظهور التحولات في الوطن العربي في هذا الوقت تآكل هذه الطبقة، فقد بدت الفجوة عميقة بين طبقتين واضحتين - طبقة أغنياء "عليا" وطبقة فقراء "دنيا" - بسلوك مستفز من مظاهر البذخ لطبقة الفقراء المعوزين.. وهنا تكمن المشكلة الأبدية في تاريخ الحضارات الحديثة.
ولعل ذلك السلوك كان مستساغاً، وكان يمكن غض الطرف عنه من جانب الطبقات الدنيا في العصور الغابرة، إلا أن الانفتاح العالمي والوعي الناتج عن الانفتاح الإعلامي والغلاء الفادح المتسرب من مظاهر بذخ الأغنياء لأشباه (البروليتاريا)، هو ما لم يعد له أية جاهزية في نفوس أفراد هذه الطبقة التي أصبحت مفتوحة العينين. يمكن القول إن دخول الطبقة الوسطى كمكون أساسي داخل المجتمع عامل أساسي في تحديث البنيات الأساسية والسياسية للمجتمعات بطبيعة الحال، وذلك مرهون بامتلاك الوعي الطبقي، والانخراط في دينامية اجتماعية متحركة نحو النماء، دونما ظهور طفح اجتماعي من داخلها يهدد بقاءها ويقسمها إلى نصفين يجنح أحدهما نحو الطبقة العليا، والنصف الثاني نحو الطبقة الدنيا، بعاملي جذب إما إلى الأعلى وإما إلى الأسفل، محدثاً ذلك الهلع الذي أشرنا إليه مسبقا.
وقد أكد الفيلسوف اليوناني (أرسطو 384 ق.م. – 322 ق.م.) على أن استقرار الدول في استقرار الطبقة الوسطى.. هذه حتمية قد أشار إليها ذلك الفيلسوف منذ تلك العصور الغابرة، إلا أن تآكل هذه الطبقة يتراوح في النظم الاجتماعية منذ القدم، وقد تآكلت هذه الطبقة في الجزيرة العربية قبل الإسلام، مما نتج عنه ظهور طبقة أطلق عليها اسم "الصعاليك"، احتلت موقعاً بين طبقة الموالي والعبيد، وقد صفوا بأنهم خارجون عن القانون، إنما في حقيقة الأمر، وفي حقيقة علم الاجتماع؛ أن الطبقة الدنيا إذا ما استشعرت الظلم خرجت عن القانون، وهذا ما رأيناه في طبقة الصعاليك ذاتهم، حيث انضموا بعضهم إلى بعض وسكنوا الجبال، وقد تميزوا بالشجاعة والحرب وقطع طرق القوافل والإغارة على القبائل، وكانت لهم قوانينهم وشريعاتهم التى تسلب الأغنياء وتوزع ما سلبته أيديهم على الفقراء، وكان من أشهرهم الشاعر الصعلوك عروة بن الورد والشنفرى وغيرهما.. إنه نوع من التخلخل الطبقي الذي أقض مضجع العديد من القبائل آنذاك.
أما في أوروبا إبان العصور الوسطى فكان المجتمع مكونا من رجال الكنيسة الذين يدعون الجماهير إلى التقشف والزهد، باعتبار ذلك من قوة العقيدة وشدة الإيمان، وفي الوقت نفسه كان "الباباوات في روما يعيشون حياة الترف، كما تمتع بعض رجال الكنيسة بالكثير من الحقوق والامتيازات الدينية والمدنية التي لم يكن يتمتع بها سائر أفراد المجتمع آنذاك، وكانت الكنيسة، إلى جانب امتلاكها إقطاعيات واسعة معفاة من الضرائب، لها الحق في جمع نوع من الضرائب في شكل "العشور"، وبذلك ظهرت طبقة الفرسان من النبلاء في الفترة ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر الميلاديين، الذين يأخذون من الأغنياء ويعطون الفقراء، ومن أشهر هؤلاء الفرسان الفارس "جوتس فون برليشنجن" Götz von Berlichingen المكنى بـ(ذي القبضة الحديدية). ثم ظهرت الطبقة البرجوازية "ساكنو المدن" مع ظهور الثورة الصناعية وحركة التجارة، تزامنا مع عصر النهضة أو الرنيسانس Renaissance.
ولقد فطن حكامنا لأهمية هذه الطبقة ودورها الفعال في التنمية والبناء والوعي، فعملوا على تنميتها منذ عهد المغفور له، بإذن الله، الملك عبدالعزيز، وتنمية جميع أركان البنية الاجتماعية من توسع في التعليم وإنشاء الجامعات وإرسال البعثات إلى الخارج، وغير ذلك من تقوية دعائم الاستقرار. وفي عهد الملك فيصل ـ طيب الله ثراه ـ عملت الدولة على رفع دخل المواطن، وكان من أهم ما في ذلك الأمر "التعويض" عن نزع الملكيات بمبالغ مجزية ـ وكأنه كان أمرا متعمدا لرفع مستوى الفرد ـ كما عملت الدولة على رفع المستوى المعيشي للأفراد وانتقالهم من طبقة إلى أخرى، بالإضافة إلى رفع المرتبات، وغير ذلك، مما أسهم في دفع البنية الاجتماعية واستقرارها، وهو ما سمي بزمن الطفرة، فكان ذلك الأثر الرائع من الانسجام المجتمعي الباعث على البناء والاستقرار والتنمية، إلا أنه مع تزايد السكان واستمرار الهجرة من القرى إلى المدن قد تتهدد هذه الطبقة، لا قدر الله.