لم يظهروا فجأة كما قد يتصور البعض، بل كانت هناك مقدمات وإرهاصات لظهورهم، أتحدث عن تلك المجموعة الغامضة، التي صارت حديث المدينة في مصر، وهي (البلاك بلوكBlack Bloc) أو(الكتلة السوداء)، التي نسبت إليها ممارسات عنف في مواجهة الإخوان المسلمين والأمن المصري والمنشآت العامة والخاصة.
فالمتتبع لتسلسل الأحداث، سيسمع عما اصطلح على تسميته (الطرف الثالث) الذي تبادلت بشأنه الاتهامات الإخوان والثوريون وأجهزة الأمن، وبلغت ذروتها في أحداث ماسبيرو (أمام التلفزيون المصري)، وشارع محمد محمود أمام مقر وزارة الداخلية المصرية، ثم في محيط قصر الرئاسة بضاحية مصر الجديدة، وتوجت بالمصادمات الدامية في مدينتي السويس وبورسعيد، والتي راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى.
هذا فضلا عن ممارسات أتباع الناشط الإسلامي حازم صلاح أبو إسماعيل، الذين حاصروا مدينة الإنتاج الإعلامي، واعتدوا على مقر صحيفة (الوفد) وأقسام الشرطة، وبالتالي كان منطقيا أن يولد هذا العنف الذي مر دون حساب، عنفا مضادا من كيانات مثل (الألتراس) و(الأناركيين) وهؤلاء هم نواة Black BloK كما يؤكد خبراء الأمن.
تحريت الأمر بأسلوب "التحقيق الاستقصائي"، فاتصلت بضباط وخبراء أمنيين، ونشطاء ثوريين في الشارع، وبحثت في شتى المصادر لأكتشف معلومات مذهلة، فهذا الكيان ليس صناعة مصرية خالصة، بل ظهر في ثمانينات القرن الماضي في ألمانيا، بأعمال شغب ضد سياسات الطاقة النووية، وفرض قيود على الإجهاض وغيرها، ثم ما لبثت أن انتقلت خارج أوروبا خلال المظاهرات المناهضة لمنظمة التجارة العالمية عام 1999، عندما أتلفت ممتلكات محلات الملابس جاب (GAP) وأولد نيفي) (Old Navy) وغيرها من الشركات متعددة الجنسيات بمدينة سياتل.
خبراء الأمن يرون أن خلايا Black Bloc تجمع بين عنف اليسار الراديكالي ممثلا في (الثوريين الاشتراكيين) من جهة المرجعية الفكرية، والأساليب التنظيمية للخلايا السرية لجماعة الإخوان التي ينكرونها دائما، في مناخ أمني متهافت خلق أجواء فوضى يبدو ـ والله أعلم ـ أنها صارت عنوان المرحلة الراهنة في مصر.
التقيت شابا ملثما يرتدي الأسود من Black Block كان حديثه مقتضبا وحادا، مؤكدا أنهم ضد الإعلام، لكنه سيتحدث معي لأنه يعرفني شخصيا، وأن أهدافهم ليست تخريب مؤسسات الدولة، بل تدمير ممتلكات وإسقاط نظام الإخوان من خلال العنف الذاتي بأساليب بسيطة، فلا يستخدمون أسلحة متطورة، بل بدائية لكنها فعالة كقنابل المولوتوف، وشدد على أنهم لا يتلقون أي تمويل خارجي؛ لأن أدواتهم بسيطة وغير مكلفة، ويمارسون (حرب الشوارع)، وأن الحديث عن سلمية الثورة "مجرد كلام رومانسي لا قيمة له"، ولا بد من مواجهة الإخوان على الأرض حسب تعبيره.
أما عن سبب استهدافهم للإخوان، فقال: إن من خاننا أخطر ممن قتلنا، وأن الجماعة خانت الثوار وأبرمت صفقات مع المجلس العسكري، مقابل حصد مكاسب سياسية والهيمنة على مفاصل الدولة، لهذا فإنهم أقسموا أن يقتصوا لدماء الشهداء، سواء من الإخوان أو من أجهزة الأمن إذا تصدت لهم، كما شدد على أنهم لا يسعون لتخريب مؤسسات الدولة، بل تدمير اقتصاد الإخوان، وأنهم أيضا ضد عودة الحكم العسكري، على حد قوله.
انتهت المقابلة التي جرت في محيط قصر الاتحادية، ولم تستغرق سوى دقائق، وهنا تجدر الإشارة إلى أن ظهور هؤلاء جاء بالتزامن مع الذكرى الثانية لثورة 25 يناير عام 2013، وأن الأوضاع تمضي من سيئ لأسوأ.
أما عن أساليبهم، فهي بالغة البساطة والخطورة، فهم يتبعون تكتيكا للاحتجاجات يرتدي فيه أفرادها الملابس السوداء والأوشحة والنظارات والأقنعة وخوذات الدراجات النارية المبطنة وغيرها من الأشياء التي تحميهم وتخفي هويتهم، لكنهم يتواصلون عبر برامج اتصالات يصعب مراقبتها أمنيا، والتي انتشرت مؤخرا مثل Viber وTango فضلا عن شبكات التواصل عبر الإنترنت مثل الـ(فسيبوك وتويتر).
قصارى القول: إن مصر لم تشهد هذا المناخ الذي تؤسس فيه القوى السياسية ميليشيات، فالإخوان أعلنوا أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي، وأطلقوا ما أسموه مجموعات White Block للتصدي للكتلة السوداء، بينما لوح جهاديون بإعلان ما أسموه (النفير العام) لحشد أنصارهم في مواجهة من وصفوهم بالمخربين و(الثورة المضادة)، لكن بقليل من التأمل يمكن للمرء أن يستشرف آفاقا بالغة الخطورة، فهذه إرهاصات للاقتتال الأهلي، وهذا العنف المنظم يجب أن يواجه بكل الطرق السياسية والأمنية، وصرامة؛ لأن مناخ الانتقام والحشد والتعبئة الذي يتبناه حكام مصر الجدد ليس حلا، فمن يتباكون على دماء الضحايا بينما يسعون لاستغلالها لحصد مكاسب سياسية، هم القتلة الفعليون سواء كان ذلك بقصد أو دون قصد، وأخيرا أؤكد انطلاقا من معلومات أن عشرات من أجهزة الاستخبارات تعبث داخل مصر، وأن تجربة الإخوان في الحكم باتت على المحك، ولن يسامحهم التاريخ ولا المصريون ولا الله تعالى، وهو المستعان.