مصر هذه الأرض الطاعنة في جذور التاريخ الإنساني، تتنفس الصعداء أخيرا، ولكن بصعوبة كما لم تفعل من قبل، ومعها يلتقط العالم أنفاسه بلهفة كما عودته مصر أحمد عرابي 1882، ومصر سعد زغلول 1919، ومصر الضباط الأحرار 23 يوليو 1952، ومصر جمال عبدالناصر 1954، ومصر 1967، ومصر حرب العبور 1973، ومصر شباب الفيسبوك 25 يناير 2011، ومصر محمد مرسي 24 يونيو 2012. مصر أم الدنيا التي شغلت العالم، وحبست أنفاسه لأكثر من عامين، هاهي تظهر برئيسها الجديد محمد مرسي، والذي ينتمي إلى حزب التنمية والعدالة (جماعة الإخوان المسلمين) سابقا.

وتوقع العالم أن تكون مصر الجديدة اسما على مُسمى، عطفا على الطريقة الحديثة التي آلت إليها ثورة شبابها وأهلها، وهي الطريقة التي أذهلت العالم حسب تصريحات كثير من السياسيين، فالرئيس الأميركي أوباما أثنى بقوله: "يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر"، وقال ديفيد كاميرون: "يجب أن ندرّس الثورة المصرية في المدارس"، أما بيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا السابق فقال: "لا جديد في مصر فقد صنع المصريون التاريخ".

كل ذلك الثناء العالمي على الثورة المصرية وثوارها، لم يكن غريبا قياسا بما تم تحقيقه من منجز أممي هائل بفعله ومعناه، وهو للحق إنجاز سياسي واجتماعي لم يسبقهم إليه أحد، من حيث كيفية الآلية التي تم بها إنجاح الثورة، وهو الأمر الذي وصفته قناة الـ(CNN) الإخبارية العالمية بقولها: "لأول مرة في التاريخ نرى شعبا يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها". لكن مصر الجديدة التي انتظرها وتنبأ كل العالم بها ـ وأنا منهم ـ لم تكن إلا حلما عشناه سوية لمدة بسيطة وسرى فينا كالخدر، وغنينا فيه بحب وفرح "مصر عادت شمسك الذهب". إذ في الوقت الذي كنا نحلم فيه بظهور وجه مصر الدولة المدنية، ومصر دولة المؤسسات، ومصر دولة القانون، لتكون الرائدة كعادتها لكل أطياف ووجوه الأمة العربية، نفاجأ بتسارع الأحداث، وبشكل دراماتيكي، وباسم الديموقراطية، يقفز إلى واجهة الأحداث من ليس له في الأمر غير الأطماع القديمة، ولا تفيق مصر من حلمها إلا وقد أصبحت في يد جماعة الإخوان. هذه الجماعة التي ترى الأحداث والأمور من أضيق زوايا التغيير السياسي والاجتماعي والفكري والاقتصادي. لن تقدم لمصر غير ما سيعيدها إلى الوراء، ومدارس الوراء، وفكر الوراء.

لقد تابعت الأخبار المصرية ـ بدقة ـ في الأشهر والأيام الماضية، ولم أشاهد إلا مستقبلا لا يحمل من المستقبل إلا اسمه، بينما يحمل من الماضي كل صوره. ليس ذلك عيبا في جماعة الإخوان، بقدر ما هو عيب في العقليات التي تحمل على عاتقها عبء الاسم الكبير (الإخوان المسلمون). بينما هي في الواقع تفتقد لفهم وإدراك أبسط قوانين قواعد اللعبة السياسية. والواضح جدا أن تلك العقليات لم تستوعب التغيرات العالمية الجديدة، وأنها ما زالت تعيش في العصور السياسية والفكرية ما قبل الوسطى. في الأشهر الماضية لم أشاهد على الساحة المصرية، ولم أستمع إلا إلى الكذب السياسي، والتدجيل السياسي، والتحايل السياسي، وباسمك أيتها الديموقراطية.

قبل أيام أرادت مصر أن تحتفل بالذكرى الثانية لثورة 25 يناير، كما يُحب ربنا ويرضى، غير أن قيادة الإخوان أرادت لها احتفالا على طريقة النظام السابق. فإعلان حالة الطوارئ التي شملت ثلاث محافظات مصرية، دليل على الفشل السياسي وتحولاته في مصر حتى الآن. الشعب المصري شعب عظيم، ويستحق قيادات سياسية حقيقية، وليست مُفترضة كما هو حاصل الآن، والشعب المصري طالما كان قائدا وسناما لكل الأمة العربية، وفي كل الاتجاهات، فقد تقدمتنا مصر في الحروب، وفي الفنون، وفي السياسية، وفي الأدب والثقافة، وفي الرياضة، وفي التخطيط والبناء، وفي كل النواحي. فما الذي جعل من مصر دولة عادية، شبه فاشلة سياسيا واقتصاديا، تتخلى عن ريادتها العظيمة لأمة بأكملها.

أنا لا أشير إلى فشل قيادة الإخوان، بقدر ما أذكرهم بغوغائية وتسلط النظام السابق على كل الاتجاهات السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر قبل حين. وعليهم إذا ما أرادوا الانطلاق بمصر جديدة، ألا يبدؤوا بتغطية وجه مصر التاريخية العظيمة، وتحجيم آمالها المستقبلية العريضة.