على الممشى الطويل في أحد شوارع هذه المدينة، أستمع إلى لغات العالم المختلفة مثلما أستمع لأصوات الطيور المختلفة في غابة متشابكة. كل طاولة لها لغتها المختلفة، وكل متر يشير إلى سحنات وجلود وألوان من البشر القادمين من بوصلة هذا الكون إلى هذه المدينة. على ركن بعيد جلست واحدا وحيدا ألمح صورة وطني القريب البعيد مثل طائر ينظر إلى (عشه) من ارتفاع شاهق: كيف سنحافظ على نسقنا الثقافي ومركبنا الاجتماعي، مغلقا محافظا في كل هذه الظروف المختلفة. كيف نستطيع أن نحافظ على خط سير هذه السفينة الهائلة في هذه الظروف من بحر يموج بكل ما هو نذير بالعواصف؟ كيف تستطيع أن تكون ساكنا آمنا بين كل هذه التيارات الجارفة من الجهات الأربع: هذا هو السؤال الجوهري للجواب على إرادة التغيير. كل ما يدفعني لهذا السؤال هو الخوف الممزوج ببحر هائل من الولاء والحب. تأملوا هذه الصورة. أمامي الآن نشرة الأخبار، وعلى التوالي، أخبار تيارات العبث تقاتل بعضها البعض على جهات البوصلة الأربع المحيطة بهذه السفينة. شعوب تتحول ثوراتها إلى فوضى عارمة دون عبرة أو عظة أو حتى صوت للعقل. شعوب تبرهن بثوراتها أنها دخلت شيخوخة الخريف وطقوس الشتاء تحت مسمى الربيع العربي. سؤالي الواضح: هل سنكون في مأمن ولو بالعقل والعظة؟

سأذكر هنا فوارق التأثير ما بين ثورتين: الثورة الإيرانية التي استقبلناها (صماء) لأنها كانت بلا لغة تستطيع النفاذ، وأيضا بلا جمهور مستقبل بحكم التباين العرقي والمذهبي. مشكلة هذا (الشتاء) العربي أنه يبث رسائل هذه الفوضى الفاضحة بذات اللسان واللغة، وأيضا إلى ملايين الجماهير المخدوعة بهذه الانتهازية السلطوية تحت أدبيات السياسة. وسنعود للسؤال: كيف نستطيع العبور في مسافة محدودة من الهواء الساكن بين هذه التيارات الجارفة؟ والجواب يكمن في العظة والإرادة. يكمن أيضا في العبرة. كيف تستطيع هضم مقتل ما يقرب من أربعين متظاهرا مصريا من أجل حكم قضائي بإعدام عشرين متورطا في القتل؟ كيف تستطيع هضم مقتل مئة ألف سوري حتى اللحظة كي يبقى رأس فخامة الرئيس؟ سأكمل غدا من حيث ابتدأت رأس المقال. عن الإدارة وعن الإرادة وعن الانغلاق والانفتاح. عن الفوضى وعن الانفصام المجتمعي ما بين تطلعات الأجـيال لأنها مفـتاح الحلول مثلما هي أسـباب المشكلة.