تحدثنا في المقالتين الماضيتين عن نقد أمارتيا سن لجون رولز ونظريته في العدالة، وسعينا لوضع ذلك النقد في سياقه الفكري والاجتماعي الأكبر الذي اشتغل فيه سِن على مدار مسيرته الفكرية.

اليوم سنتحدث عن نقد آخر لرولز قامت به إحدى أهم الفيلسوفات المعاصرات في أميركا.. مارثا نوسبام Martha Nussbaum الأستاذة في جامعة شيكاغو، والتي قامت بالتدريس في هارفارد على فترات متفاوتة. الكتاب الرئيس الذي قدّمت فيه نوسبام نقدها لرولز هو "حدود العدالة" Frontiers of Justice 2007 والذي أهدته لذكرى جون رولز. نوسبام فيلسوفة أخلاق بالدرجة الأولى، ولذا كان فحصها لنظرية رولز ليس معتمدا في الدرجة الأولى على فحص التماسك المنطقي لهذه النظرية، بل على فحص عدالة نظرية رولز للعدالة. نوسبام سألت السؤال الجوهري في البحث الأخلاقي: من هم الغائبون في عملية إجراء العقد الاجتماعي؟ من هي الجماعات التي لم تستطع معادلة العقد الاجتماعي استيعابهم أو تضمينهم في عملية التعاقد؟ خلف هذا التساؤل تقبع فرضية المساواة، وكأن نوسبام تقول إن أي عقد اجتماعي لا يستوعب الجميع في لحظات إجرائه فهو يعاني من مشكلة جوهرية في العدالة.

الدعوى الجوهرية في نقد نوسبام هي أن نظريات العقد الاجتماعي في غالب صورها ـ ومن ضمنها نظرية رولز ـ فشلت في رؤية الناس في كافة ظروفهم وحالاتهم. في جوهر نظريات العقد الاجتماعي، تتابع نوسبام، هناك فرضية جوهرية وهي أن أطراف العقد يقعون في درجة واحدة من القوّة.

ولو عدنا إلى حجاب الجهل الذي بنى عليه رولز تصوره لحالة التعاقد الأولى، سنجد أن المتعاقدين، وبسبب جهلهم لمواقعهم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع، يتفقون على أن المساواة هي الحال الأفضل للجميع.

تقول نوسبام "هناك التزامان يقعان في جوهر نظرية العقد الاجتماعي كما نعرفها تاريخيا: الأول أن أطراف التعاقد على مستوى متقارب من القوّة والقدرة، والثاني هو فكرة المنفعة المتبادلة بين أطراف العقد". النقطة الثانية تحتاج إلى توضيح أكثر. في الصورة السائدة للعقد الاجتماعي أن أطراف التعاقد يتوقعون من بعضهم القيام بأعمال معينة في مقابل قيام الآخرين بأعمال معينة. بمعنى أن أحترم حريتك لتحترم حريتي، أن أقدم خدماتي وولائي للمجتمع، وفي المقابل أن تقدّم أنت خدماتك وواجبك لذات المجتمع. في صورتها المباشرة تبدو العملية واضحة وربما بديهية، لكن نوسبام ستكتشف فيها مشكلة تمسّ جوهر العدالة تحديدا حين تسأل عن أولئك الذين لا ينصفهم ميزان القوّة والنفع المتبادل.

بحسب نوسبام فإن هذه الفرضيات الكامنة في قلب نظرية العقد الاجتماعي تؤدي بالضرورة إلى تمييز ضد فئات اجتماعية لا تنطبق عليها مواصفات المعادلة في القوّة ولا المنفعة المتبادلة، ولذا فهي تقترح مبدأ آخر للعقد الاجتماعي ربما هو كامن داخل نظرية العقد الاجتماعي ولكنه ليس نقطة انطلاقها. المبدأ الذي تقترحه نوسبام وتراهن على أنه لن يقع فيما وقعت فيه نظريات العقد الاجتماعي من تجاهل لفئات معيّنة في المجتمع هو مبدأ "الكرامة الإنسانية". من المهم هنا الإشارة إلى أن "الكرامة الإنسانية" هنا ليست نقطة انطلاق للتعاقد الاجتماعي فقط، بل هي معيار نتائج وثمار هذا التعاقد أيضا، بمعنى أن التعاقد الاجتماعي يشمل كل البشر بغض النظر عن أي معيار آخر، وأن هذا العقد صالح ومعتبر متى ما أدى إلى تحقيق الكرامة البشرية.

بالتأكيد أن نوسبام هنا تخوض مغامرة سعى لتجنّبها رولز. تحديدا الانطلاق من فرضية سابقة على إرادة التعاقد الاجتماعي. رولز، الذي كان التحدي أمامه يكمن في صياغة نظرية إجرائية لا تفترض فرضيات مسبقة ميتافيزيقية أو أخلاقية على إرادة التعاقد، اضطر إلى تأسيس العقد الاجتماعي على سلوك إنساني متوقع يرفض الظلم على نفسه، لذا على الأقل يسعى لأن يكون مساويا للآخرين. في المقابل نوسبام أمام تحد أكبر في شرح وتأسيس فكرة الكرامة الإنسانية، وهل هذه الفكرة تفترض قيما ميتافيزيقية سابقة على التعاقد الاجتماعي.

برأيي أن نوسبام ليست في موقف أصعب من أي نظرية للتعاقد الاجتماعي، ففي نهاية المطاف الجميع مضطر للانطلاق من تصوّر معيّن لـ"الطبيعة البشرية". هذا التصوّر عن طبيعة الإنسان هو الذي يجعل من حركة العقد الاجتماعي قابلة للتنبؤ والتوقع والرسم نظريا. نوسبام وهي الأرسطية أخلاقيا ستعطي تصورا دقيقا لما تعتقد أنه يحقق الكرامة البشرية. البعض يطلق على تصوّر نوسبام أنه تصوّر وظيفي لا ميتافيزيقي للكرامة الإنسانية. بمعنى أن هذه الكرامة تتحقق عندها في ممارسة أعمال معينة ووظائف معينة وليست مجرد حالة يمكن أن تتحقق نظريا. المقال القادم سيكون تفصيليا في هذه القضية، ولكن لنعد الآن ولوهلة للجماعات التي تعتقد نوسبام أنها غائبة في نظرية رولز.

ثلاث فئات رئيسية: ذوو الاحتياجات الخاصة، والمجتمع الدولي، والكائنات غير البشرية لا تدخل بحسب نوسبام في نظرية رولز.

الفئة الأولى ليست في ميزان قوّة مساو للآخرين، وقد لا ينطبق عليهم الوصف في عملية النفع المتبادل الجوهرية عند رولز وغيره من فلاسفة العقد الاجتماعي. المجتمع الدولي، وهنا تتفق نوسبام مع سن ومع رولز أيضا، في أن نظريته على الأقل في كتاب "نظرية في العدالة" لا تشمل المجتمع الدولي، وبالتالي لا تشمل كل البشر. حقوق الحيوان والبيئة أيضا تغيب عن الصورة في نظرية رولز، وتريد نوسبام أن تعيدها لتحتل مكانها الضروري والطبيعي. هذه الفئات هي محور اهتمام نوسبام لتأخذ نظرية رولز لأبعاد أوسع وأكثر عدالة. الأسبوع القادم حديث عن تصوّر نوسبام للكرامة الإنسانية ومسار القدرات والإمكانات البشرية التي تسعى أن تجعل منه معيارا، ليس فقط لتأسيس نظرية للعدالة، بل لتقييم نتائجها ومخرجاتها.