الحديث عن نجاعة برنامج السعودة لا يمكن أن يتم استيعابه أو اختزاله في مقالة أو مقالتين نظراً لعمق المسألة المطروحة وهو ما يحتاج لدراسات معمقة ذات طابع أكاديمي ومن مراكز أبحاث متخصصة، وإذا كانت للسعودة عدة أوجه بحاجة للنقاش والتحليل فإن هذا المقال إنما يهدف لمجرد الإشارة نحو بعض الأساسيات المتعلقة ببرنامج السعودة التي يرى كاتب هذه السطور أنها محورية لضمان نجاحه، فالحديث عن السعودة لا بد أن يأخذ في الحسبان المحرك الرئيس خلفه وهو ارتفاع نسب البطالة في المملكة بين المواطنين الشباب لنسب غير مقبولة لضمان السلم الاجتماعي، والسعودة كبرنامج من منطلق هذه الرؤية تأتي كمشروع وطني سياسي/اقتصادي/اجتماعي ذي أبعاد متعددة، وإذا كان برنامج السعودة يعتمد في قياس نجاحه بصورة أساسية على خفض نسب البطالة فإن استمرار الأزمة الظاهرة للبطالة في المملكة بصورة عامة يفتح باب التساؤل حول نجاعة الآليات المستخدمة في هذا البرنامج على المدى الطويل.

يرتكز مشروع السعودة بصورة أساسية على ركيزتين: الإحلال وخلق الفرص الوظيفية، وفي مقالين سابقين لكاتب هذه السطور بعنوان "هل تتوافق السعودة مع الإصلاح الاقتصادي" بتاريخي 12 و 19 أبريل 2009 أوضح أن محاولة خلق فرص وظيفية للسعوديين من خلال سعي المملكة لجذب الاستثمارات الخارجية أو الإصلاح الاقتصادي الذي يروم المحافظة على رؤوس الأموال من الهجرة للخارج لا يتوافق بنيوياً مع السعودة التي تفرض نسباً معينة لتوظيف السعوديين حيث إن حاجة المستثمر الوطني أو الخارجي لغير السعوديين كبيرة وتصبح السعودة بالتالي إحدى العراقيل الطاردة للاستثمار في نظرهم، فالسعودة والإصلاح الاقتصادي الهادف لخلق فرص وظيفية جديدة كل منهما حصان يجر العربة في اتجاه مختلف.إحلال السعوديين في الوظائف من جهة أخرى كأسرع وأقصر الطرق لمواجهة وخفض نسب البطالة تواجهه عدة عراقيل وعلى رأسها غياب السعوديين المؤهلين للعمل مقارنة بالأجانب فالسعودة تطمح بفرضها نسباً معينة لتوظيف السعوديين أن تفرض على الشركات الاضطلاع بمهمة التأهيل والتدريب الأساسية اللازمة للعمل التي كان من المفترض أن يقوم بها نظام التعليم، ولكن الدولة من جهة أخرى لم تراجع كامل المنظومة المرادفة لنجاح مثل هذا الطموح فجاءت حقوق الشركات منقوصة وهو ما سبب بالتالي نقصاناً في حقوق الموظفين، فالمحصلة اليوم هي أن العديد من الشركات تتخوف من توظيف السعوديين نظراً للحقوق العديدة التي يمنحها النظام لهم ـ التي لا تمّكن هذه الشركات من فصل موظفيها بسهولة على سبيل المثال في ظل تقاعسهم عن تعلم وظيفتهم بالشكل المطلوب، من جهة أخرى تسبب هذا الأمر في أن يقبل العديد من الشباب العمل تحت فترة الاختبار لمدد طويلة في الشركات لأن هذا هو المخرج الوحيد للشركات لضمان حقوقها وهو ما يمثل انتقاصاً من حقوق الموظف السعودي.

إن الوصل بين كل من الأمان الوظيفي للموظف والمرونة التي تحتاجها الشركات فيما يتعلق بالتوظيف هو جوهر المسألة وربما يكون المدخل لتفعيل برنامج السعودة بشكل حقيقي، هنا يمكن أن يبرز النظام الدنماركي المعروف باسم "الأمان المرن" (Flexcurity) وهو اشتقاق من المصطلح (Flexible -Security System) وهذا النظام الذي بدأ العمل به عام 1994 كان السبب الرئيس بحسب بعض التحليلات في انخفاض نسبة البطالة في الدنمارك من 9.6% عام 1993 إلى 6.2% في 2004.

قانون هذا النظام الدنماركي لا يحدد حدا أدنى للأجور ولا ساعات عمل ولا يوجد به عقد عمل نموذجي حيث يتم التفاوض بين الموظف وصاحب العمل والوصول لشروط مرضية للطرفين، وفي حالة الفصل لا يتعين على صاحب العمل دفع تعويض للموظف، في المقابل يتيح النظام التأمين ضد البطالة (unemployment insurance) عن طريق شركات التأمين حيث يمكن للموظف أن يستلم 90% من راتبه بسقف أعلى لا يتجاوز حوالي 20 ألف يورو سنوياً ولمدة قصوى بحدود 4 سنوات، وبالنسبة للموظفين الذين لا يغطيهم التأمين تقوم الحكومة بتقديم مساعدة اجتماعية مشروطة بالبحث عن وظيفة، وهذا الشرط له آلية حيث إنه خلال الستة أشهر الأولى من عدم التوظيف يجبر الشخص على المشاركة في برنامج للبحث عن وظيفة ويتضمن هذا البرنامج تدريباً (Professional Training) أو حتى الالتحاق بشركات أخرى كمتدرب (Internship)، ولكي يستفيد الأشخاص من منافع هذا النظام فإنه يشترط عليهم أن يكونوا قد عملوا لمدة 52 أسبوعاً على الأقل في الثلاث سنوات التي سبقت خروجهم من وظائفهم كما أن يكونوا قد ساهموا في صندوق تأمين خاص بذلك، وفي حالة عدم توافر هذا الشرط يحصل الشخص على منافع أقل من المساعدة الاجتماعية وهو الأمر الذي يخلق روحاً للسعي على العمل.

هذه الملامح العامة للنظام الدنماركي يمكن القول إنها لا تتطابق بالضرورة مع معطيات الواقع السعودي ولكنها تفتح في المقابل آفاقاً للتفكير حول نظامنا القائم اليوم ومدى ملاءمته للواقع ومدى نجاعته في التوفيق بين حاجة السوق والشركات وهي التي يقع على عاتقها الجزء الأكبر وبين حاجة الدولة لخفض نسب البطالة المرتفعة، ومن ثم فنحن بحاجة للتوفيق بين الأمان الوظيفي الذي يطمح له الشاب وبين حاجة صاحب العمل للمرونة التي تتيح له الاستمرارية، مهما يكن النظام الذي نملكه اليوم فإن الأهم هو ألا تتوقف عجلة التفكير والنقد الذاتي وحركة السعي للارتقاء بما نملك من أجل الصالح العام.