لقد حفل تاريخنا بأمجاد اتخذت طينتنا منبتا لها، فنبتت فينا وتأصلت ثم امتدت فروعها لتشمل العالم بأسره شرقه وغربه كما يقول ولفريد سيجنر: "لقد كنت أفكر في أثر العرب على التاريخ العالمي. لقد فرض أعراب الصحراء ميزاتهم وخصائصهم وتقاليدهم على الجنس العربي كله. فالعادات والمعايير التي انتشرت عن طريق الفتح الإسلامي حتى شمال أفريقية والشرق الأوسط, بل والتي شملت جزءا كبيراً من العالم، كانت كلها قادمة من الصحراء العربية".

وإذا تابعنا خصائص هذه المكارم فسنجد أنها تجتمع جميعها في ما يسمونه بالشيم. وقد صدرت المدونات والموسوعات في تدوين هذه الشيم العربية، التي لا يتسع لذكرها إلا كتب وموسوعات، لتعدد صفاتها واتساع وصف مناقبها.

هذه المكارم هي بنت الجزيرة منذ بدايتها الأولى، كقانون قبيلي غير مبرم بين أبناء الجزيرة، حتى وصل الأمر إلى أن من يخرج عن هذا القانون يعتبر خارقا له، وبالتالي منبوذا من محيطه الاجتماعي، وقد يحرم من حق المواطنة، وحق الشهادة، وحق التزاوج، وحق النسب. فيحيا حياة حرجة وصدرا ضنكا يتمنى الموت فلا يجده. ولذلك فإن سيجنر يقول "ليس هناك صمت في الصحراء، بل كل ما يحدث في أي جزء منها ينتشر ويشتهر، وإذا أتى أحد الأعراب إدَّاً فإنه يوقن أن أمره هذا سيفتضح وسيشيع في كل مخيم. وهذا ما يجعل كلاً منهم يحرص ألا يكون في سلوكه ما يشين". ومن هنا تأصلت فيهم مكارم الأخلاق أو المروءة وابتعدوا عن خوارمها، فخوارم المروءة أمر يُستقصى عنه في الفرد للوصول إلى كنه شخصيته، لتحديد التعامل معه بأي شكل من الأشكال. فلعلنا نذكر ذلك الرجل المحكوم عليه بالقصاص لدى أمير المؤمنين، فطلب الرجل حينها أن يذهب ليؤدي أمانة كانت لديه. فضمنه أبو ذر وهو لا يعرفه، وعندما عاد عفا عنه صاحب الحق. فعنئذ سئل أبو ذر لِمَ ضمنه؟ فأجاب: خفت أن يقال إن المروءة قد ضاعت بين الناس. وسئل صاحب الحق لِمَ عفوت عنه؟ فأجاب: خفت أن يقال ضاع العفو بين الناس. وسئل هو بدوره لِمَ عاد؟ فأجاب: خفت أن يقال ضاع الحق بين الناس. هذه أمور بالغة الشأن في حياة أجدادنا وهي دستور تممه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة فيما بعد، لما لها من سلطان على هؤلاء ولما فيها من جماليات السلوك البشري. ولكن العجيب هو أهمية خوارم المروءة! أي أن المروءة محمولة لا مراء في ذلك، ولكن خوارمها كانت تحرم الرجل أو المرأة على حد سواء من احترام الناس وتقديرهم وهي دقائق السلوك، كمن يأكل بيساره، أو كمن يقهقه في مجلس، أو كمن يمشي ويداه متشابكتان خلف ظهره، أو كمن يمشي مطأطئاً رأسه. ومن هنا فقد وضعت خوارم المروءة كمحصنات للمروءة ذاتها، ولكي تكن حمى لها، فلا يرتع في الحمى! خوفا من الوقوع في الحمى نفسه، فيكون في حصن حصين من أي تعد أو اختراق.

ولعل المروءة ـ في يومنا هذا ـ أصبحت عبئاً ثقيلا على أبناء هذا الزمن الذي تلازم في ذات الزمن العالمي الموحد في مساره وفي اتجاهه، دون أن نعلم عن تسلله إلى دواخلنا، فرتعت ذواتنا في فضاء رحب من التداخلات الثقافية، وقد أعجبنا بعضها، أو انصبغنا بلونها، فبدأنا وكأننا نسلك ذات السلوك الذي يروق لمجتمعات ليست منا ولا يناسبها ما يناسبنا. ومن هذا السلوك الميل إلى الوحدة والانغلاق على الذات، وهذا ليس من طينتنا، وعلى سبيل المثال:

كنت أسكن في حي "القرى" في أبها مع عائلتي، وكنت ذات الست سنوات أرى كل صباح الرجال يخرجون من بيوتهم، منهم ذو "المشلح" الذي ينم عن مركز اجتماعي مهم من وجهة نظري، ومنهم ذو الثوب والغترة بدون مشلح، ومنهم سار حاسر الرأس، وكل ذلك يدل على تراتبهم الاجتماعي، إلا أنهم جميعهم يخرجون من منازلهم ويدخلون منازل أخرى كل صباح قبل الذهاب إلى العمل لماذا؟ كان سؤالا يؤرقني ويلح على إجابة لم أفهمها إلا حينما كبرت، وهي أن هذا يدخل على أمه كي يقبل يديها في مقتبل يومه، وذاك يدخل على أبيه ليقبل رأسه، وآخر يدخل بيت عائلته ليقدم ما حبته يداه قبل أن يذهب. فكانت حواري حي "القرى" بأبها أشبه بخلية نحل كل صباح، نوع من التواد والتراحم والحميمية والمودة والحب، فيحيا البناء المجتمعي كله لبنة واحدة تاركة فينا بناء نفسيا صحيا مبهجا.

في يومنا هذا قد يندر أن تجد فردا يرفع هاتفه على والديه يقرئهما السلام، ويصبِّح عليهما في أول يومه ليفتح الله عليه في يومه. أليس هذا نوعا من أنواع خوارم المرءة؟! إن جاز التعبير، ودعنا نر ماذا قال سيجنر: "ولشد ما آلمني ذلك التطور الشامل الذي عم المنطقة، لقد كتب الفناء على أولئك البدو الذين عشت معهم وسافرت معهم وأحسست بالقناعة في صحبتهم"، ويقصد بالفناء مجازا فناء السلوك المتفرد. وأضيف أيضاً على هذا أنني عندما أتجول في شوارع مدينة من المدن كالرياض، أو جدة، أو أبها، يؤلمني ذلك السياج المحاصر للمنازل، مع احترامنا للخصوصية وحرمة المنازل، إلا أننا لو تأملنا في تلك الأسوار التي ترتفع إلى ما فوق مستوى المنازل، سنجد أنها تترك سياجاً نفسيا يعمل على بتر العلاقات الإنسانية بين الأفراد في المعاملات اليومية- نتيجة لهذا السياج وأثره على اللاوعي الداخلي- وذلك يرجع إلى الهجرة المتدفقة من القرى إلى المدن، فاختلاط البشر في الوقت نفسه يخفف الانتماء بينهم ويتراجع إلى القبيلة، فلم يفتر الحس القبلي في نفوس الأفراد نتيجة سرعة التطور والتحديث.

كما يرجع ذلك أيضا إلى التماس مع الثقافة العالمية بالرغم من أن الحميمية هي التي فطرنا عليها على خلاف ما اعتادوا عليه من الميل إلى الوحدة والتأمل. وبالتالي فلا يناسبنا ما يناسبهم، يقول سيجنر في معاناته حين زار الجزيرة: "إني دائم الحنين إلى الوحدة، وذلك هو الشيء الوحيد الذي لا يشعر به البدوي طيلة حياته، فقد سألني الإنجليز كثيرا هل شعرت بالوحدة في الصحراء... إنني لم أشعر يوما بالوحدة وأنا بين الأعراب لقد زرت مدنا عربية لا يعرفني فيها أحد"، وبالتالي يشعر الناس منا بشيء من الاغتراب أو الغربة إن صح التعبير وهو في داخل وطنه في هذه الأيام نتيجة افتقاد الحميمية بيننا، ومن هنا يكون ذلك الصراع الدائم بين المكارم والخوارم.