( كيف يمكن لك أن تذهب إلى الطفولة؟ هكذا قلت لنفسي وأنا أسند رأسي على مقعدي في الطائرة المتجهة إلى جدة، كنت أحاول خلال الأيام الماضية أن أفكر بهذه الورقة التي شاء لها الإخوة في النادي "تجربتي الشعرية "عنوانا واخترت لها "علاقتي بالشعر" عنوانا بديلا يغري بالكتابة تحته وعنه، السفر محرض على الكتابة، كثير من قصائدي فكرت ببعض مقاطعها في المطار أو في العربة في طريق بري، لذلك آثرت أن أبدأ كتابة الورقة على الأرض وأكملها في الفضاء).

هكذا خاطب الشاعر عبد الله الصيخان النشء من الجنسين في نادي جدة الأدبي أخيرا، خلال ختام ورشة (نطاق) الصيفية للفنون الإبداعية.

الصيخان، قال لـ (الوطن) إنه انتابته حيرة في البدء حول ما هو الخطاب الذي يمكن أن يتواصل بواسطته مع المتسهدفين، فرأى أن أفضل خطاب هو السيرة، وراح يروي لهم أن(السفر للطفل مفتاح معرفة، أسترجع دائما تلك اللحظة الغائرة في الزمن وأنا في حوض الوانيت الأحمر فوق العفش على طريق المعد االرملي الذي يربط حائل بتبوك، يصلني صوت هيجنة السائق وترديد أبي لها، السفر هو الكتاب الأول للطفل يرى ويسأل ويفتح فمه دهشة، اللحظة تستدعي اللحظة الأخرى).

ثم تابع كاشفا عن أنه في السادسة اعتلى وأخواته سطح شاحنة فارغة إلا منهم؛ أبوه وأمه بجانب السائق، وهو وأخواته الثلاث في الصندوق، كما يسمى، وهي المساحة التي تعتلي سطح غمرة القيادة، سائرين إلى عمان وعلى طريق لا تسلكه إلا الشاحنات.

وقال: كانت رحلتنا إلى الأردن هي الأولى خارج بلدتنا تبوك، وكنت كمن يعتلي سنام ديناصور من المعدن. كان الطريق وعرا ويحمل اسما وعرا ومرعبا، بطن الغول، لكنها كانت رحلة ليلة، وكأني أرى تلك القرى التي تلمع أنوارها على البعد في الظلام وأقرأها تاليا في قصائد لي أو لغيري.

في الأردن دخلت السيرك ورأيت الحيوانات تلك التي لم أرها بعد في كتاب العلوم، وملأت جيوب ثوبي بالمكسرات من كل صنف، ودخلت إلى ساحة الألعاب وانحدرت إلى مخيم الحسين الفلسطيني لألعب مع أقراني.

لنعد إلى تبوك

طفل هو الأصغر بين أب وأم وثلاث أخوات، فتح عينيه على بيت عاشق للأدب ومهتم به.

دكان أبي في السوق كان النافذة التي ألقي عبرها إطلالة على الشارع العام الذي يعج بالوجوه واللهجات، مراقبة حركة الناس فيه بعيني طفل كانت متعتي الأكبر.

الشارع مسرح

والناس ممثلون تلقائيون

والعين الصغيرة هي وحدها القادرة على فرز الشعر من اللاشعر.

تبوك كانت مدينة تتوزعها ثقافتان، ثقافة الدار وثقافة الجار،

ففي حين لم تكن تصل إلى تبوك سوى جريدة محلية واحدة كانت شاحنات الخضار تجلب كل أسبوع ما لذ وطاب من الصحف والمجلات.

أولي أهمية كبيرة لهذا البعد في نشأتي الثقافية فبعد سنوات من الركض خلف أبطال كسوبرمان والوطواط وطبوش ثم خلف الحبكة في روايات ارسين لوبين وشرلوك هولمز لا تلبث أن يقودك حب القراءة هذا إلى ما يرتقي بوعيك الصغير إلى مدارج أكثر فائدة ونفعا.


للشعر حضور داخل كل بيت سعودي


ثم توغل الصيخان في تفاصيل تجربته الشعرية التي غذتها طفولته فقال:

نحن أمة شاعرة لا يكاد يخلو بيت من وجود شاعر، لذلك فأنت حين تكبر قليلا وتستعيد من أمك أغاني مهدك، تسمعها ثانية وثالثة فتشعر أن هذا الإيقاع موجود هنا وتشير إلى قلبك.

الإيقاع يبدأ من قلب الأم وإليه يعود، الأمومة والطفولة منجمان مشعان بالشعر.

يذهب الشعراء إلى نبع الطفولة لتضعهم على جودي الذاكرة فيكتبون.

أفعل ذلك، لكن الطفولة دائما مرتبطة بالأمومة، وحين تموت أم الشاعر يجد في قصيدته أمومة بديلة.

لنعد إلى دكان أبي

من هنا يفتح الطفل عينيه على الحياة.

تبدو الألعاب أقل شأنا من جمع الطوابع ومراسلة الأصدقاء آنذاك، لكن الشارع كان موسما للفرح واللعب وتفريغ هذه الطاقة الكامنة، ليس مثل اللعب وسيلة لتوسيع مدارك الطفل وتنمية مهاراته، لكنه بعد فترة سيحتاج إلى كتاب بدلا من لعبة، ثم يصبح الشعر لعبته المفضلة وأنيس وحدته، ليس لعبا بالكلمات كما توحي كلمات لعبة، ولكنه إعادة الحروف إلى كلمات والكلمات إلى الجمل وشحنها بالطاقة الداخلية.

لم أعن كثيرا في حياتي بالوقوف على تعريفات الشعر،

فإذا تجاوزنا تعريف قدامة بن جعفر إلى ما قاله القيرواني في إنما سمي الشاعر شاعرا لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره. وكان للقيرواني أن يضيف إلى تعريفه ويستطيع التعبير عنه، لأن الكثيرين يشعرون بما تشعر، لكنهم يدعون شرف التعبير للشاعر.

هذا يستدعي بالكاد تعريف الشعر عند ت اس اليوت، حين يقول إنه الشيء الذي تفكر فيه بإبداع ولكنك لا تستطيع التعبير عنه بنفس الدرجة من الابداع.

بينما يحاول ستدمان التعبير بشمولية أكبر عن الشعر حين يقول

الشعر هو اللغة الخيالية الموزونة التي تعبر عن المعنى الجيد والذوق والفكرة والعاطفة وعن سر الروح.

لتقف عند الكلمات الثلاث الأخيرة من تعريف ستدمان.

والروح من علم ربي يا ستدمان

لكنك تذهب إلى الآي الكريم لنقرأ الرد القرآني على من حاولوا أن يقاربوا الوحي للشعر.

يقول الحق سبحانه وتعالى

"وما علمناه الشعر وما ينبغي له"

ألا تمنحنا الآية الكريمة أن الشعر هبة وعطاء وتعليم أيضا من الحق عز وجل؟

كل تعريف لن يرقى إلى الشعر لأنه السر والهبة وكفى بذلك مجدا

للشعراء.

وحينما طولب بتقديم نصائح لطلاب الدورة من الناشئة قال:

نصيحتي الوحيدة التي صدقتها واحتفظت بها طويلا هي القراءة وقود الكتابة، كلما قرأت استطعت أن تحافظ على شعرك صافيا رقراقا متجددا.

كثير من الشعراء ماتوا فنيا مبكرا لأنهم أحسوا أنهم وصلوا إلى الناس فتركوا الكتاب جانبا واحتفظوا بالدفتر والحبر.

الشاعر يشبه الماء الذي سيظل عذبا للشاربين كلما استمر في جريانه ولكنه يأسن حين يتوقف ويتحول الى مستنقع.

اقرأ هي ما استفتح الله بها بيانه على نبي الهدى، وإذا كانت الدلالة تنحصر في الآية الكريمة لقراءة الآي، فإنها بمنظور أوسع تتجاوزه إلى المعرفة بمفهومها الواسع، فإذا كان آدم قد استخلف في الأرض لعمارتها فلن يتأتى ذلك دون معرفة وعلم وثقافة.

اقرأ ،،، اقرأ بكل ما أوتيت من قوة

ومل إلى الشعر في قراءاتك، اذهب إلى مضارب الشعراء وأكواخهم وغرفهم الصغيرة لتستكنه هذا العالم الرحب الذي تنطوي عليه أرواحهم

القصيدة الجزء الأجمل من سيرهم الذاتية

إنها البطاقة الشخصية والهوية وفصيلة الدم الشعري

الشعراء الحقيقيون هم الذين يستفيدون من كل الشعراء الذين سبقوهم زمنا ومن أتوا بعدهم.

ثق أن لا كبير في الشعر، وثق أيضا أن لا صغير في الشعر.