تُصادف نهاية هذا الأسبوع ذكرى المولد النبوي الشريف، وبدلاً من أن تكون مناسبة لشكر الله على ولادة من أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بأمره وسراجاً منيراً، فإذا بها مناسبة لتجدد الحرب الكلامية الشعواء بين أنصار الاحتفال حتى لو كان هذا الاحتفال لا يضيف شيئاً وليس لدى البعض إلا مناسبة اجتماعية لملء البطون تتخللها فقرات إنشادية وترديد لمدائح شعرية صوفية.
أما على الطرف الآخر الرافض لتخصيص هذا اليوم بأي احتفال أو تميز من أي نوع، واعتبار ذلك خطأ فادحاً وذنباً عظيماً تخصص له خطب الجمع المتتالية للتحذير منه، في حين لا تنال كبار الذنوب التي لا جدال فيها، ومشكلات المجتمع المستعصية، الاهتمام ذاته. ويبرز سؤال يبحث عن مكان بين طرفي حرب البسوس هذه: أليس هناك حل وسط؟ هل يمكن استغلال هذه المناسبة ودلالتها العظيمة بطريقة مبتكرة للتعريف بالسيرة النبوية من دون الوقوع في البدعة على طريقة احتفالات الموالد الحالية؟
لو سألنا كلا الطرفين لما وجد هذا السؤال من إجابة إلا "لا" واضحة! فأتباع الموالد حالهم يقول "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون"، وأعداء احتفالات المولد سيقولون إن البدعة تكمن في إضافة أي قداسة أو ميزة لهذا اليوم بالذات، وأشك في أننا نستطيع إقناع أي منهما بالعكس، ولذلك فمقالي موجه للطرف الثالث.. الحائر!
أنا واحدة من هؤلاء الحائرين والحائرات. فلسنوات طويلة كنت بتأثير دراستي في المدارس السعودية مؤمنة ببدعية المولد، وسبق واعتذرت عن حضور هذه المناسبة التي يقيمها بعض أهالي الحجاز، ليس فقط في شهر ربيع الأول وإنما في أوقات مختلفة من السنة، لشكر الله على نعمة ما، مثل عودة غائب أو شفاء مريض أو نجاة مكروب وغير ذلك، لكنني في السنوات الأخيرة بدأت أراجع هذه الأفكار المسبقة لسبب بسيط وهو أنني بدأت أستشعر كيف أن الأجيال الجديدة، ولا سيما من المبتعثين وعائلاتهم في الداخل والخارج قد باتت تحتفل – شئنا أم أبينا- بمناسبات قد يتعارض بعضها مع العقيدة الإسلامية، وأعني بذلك عيد ميلاد المسيح عليه السلام (وفق المعتقد المسيحي كابن لله.. حاشا الله تعالى) في الخامس والعشرين من ديسمبر، وعيد الفصح، وعيد رأس السنة، وعيد الشكر، وعيد الهالاوين، وعيد الحب، وغيرها. وجل أطفال المبتعثين، بل وبعض أطفال المدارس العالمية في بلداننا يتعلمون عن هذه المناسبات ويحفظونها عن ظهر قلب، فيما يكادون يجهلون تواريخ المناسبات الإسلامية غير العيدين ورمضان، وهي مناسبات مفصلية لمعرفة تاريخ دينهم وحضارة أمتهم، وكل ذلك لأننا نتحرج من بدعية بمناسباتنا فتحل محلها مناسبات غيرنا. فأحضر لي طفلاً، بل حتى مراهقاً، وأسأله عن تاريخ الإسراء والمعراج؟ أو عن معركة بدر الكبرى؟ أو عن الهجرة النبوية؟ أو عن فتح مكة؟ بل دعه يحكِ لك عن قصة فتح بيت المقدس والعهدة العمرية؟ سيقول البعض ولكن هذه المعلومات تدرس في المدارس! وهنا بالضبط مربط الفرس، فهي تدرس وتحفظ لغرض الامتحان وتنسى، لكنها لا تعاش ولا تسترجع، ولا يحتفى بها بأي شكل يجعل الصغار يطبعونها في ذاكرتهم، وتغدو جزءاً من تكوينهم الثقافي. والصغار لا ينسون، فقد كنت في الخامسة حين قال أبي إنه لن يشتري لعبة من أشهر محل ألعاب في لندن، لأنها مصنوعة في إسرائيل، ولم أعرف يومها ما هي هذه الإسرائيل، إلا أنني فهمت أنها شيء سيئ، وإلى يومنا هذا وأنا أكره الصهيونية وأقاطع المنتجات الإسرائيلية بحزم، وأتعصب للحق الفلسطيني.
والمولد هو واحد من هذه المناسبات، التي يمكن استغلالها للتعريف بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بطريقة خلاقة، ولا سيما في زمن تعرضت فيه هذه الشخصية العظيمة إلى التشويه المتعمد من قبل أعداء الإسلام كما في حالة الرسام الدنماركي، بل ومن بعض المنتسبين له بالولادة مثل الكاتب الهندي الأصل ، البريطاني الجنسية سلمان رشدي. ولأن الإسلام دين ينص على أن الأعمال بالنيات، فالنية التي تحضر هنا ستكون الدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية في مواجهة مد تغريبي هائل، سواء بشكل متعمد أو عفوي، في ظل ثورة الاتصالات الحديثة، مقتبسين في ذلك أضواء من الهدي النبوي الشريف.
قمت بطرح هذه الفكرة في موقع التواصل الاجتماعي (تويتر) عبر الوسم (# مولد ـ مميز)، لاقتراح كيف يمكن إخراج هذه الفكرة إلى حيز التطبيق. وكان الهدف هو أن يتم تخصيص شهر ربيع الأول بأكمله، من أجل إقامة مهرجان السيرة أو النبوة، على غرار ما نشاهده في مهرجانات مثل الجنادرية وعكاظ بل وحتى اليوم الوطني، مع الفارق في المحتوى والهدف بالطبع. وفي ذلك أيضاً إعلاءٌ للتأريخ الهجري الذي يوشك هو أيضاً أن يندثر. ومن الأفكار التي قدمت إقامة مسابقة سنوية للمبدعين في التعريف بالسيرة النبوية عبر الفنون من مسرح وعروض للصغار (مسرح للعرائس) أو الكبار أو التقنيات الرقمية، أو جهود الترجمة، أو الأدب، أو فنون الخطابة والإلقاء، وأن تستخدم هذه المشاركات نفسها في المهرجان الذي سيحضره المواطنون والمقيمون، المسلمون وغير المسلمين والذين يشتكي بعضهم من أنهم يقيمون في بلادنا عقوداً ولا يجدون فرصة حقيقية للتعرف على ديننا وتاريخنا.
ليس لدي شك في أن أنصار الاحتفال بالمولد النبوي والمعارضين له يتيهون حباً في أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الحب هو الذي يجعلهم يدافعون عن مواقفهم بحماسة ويحاربون الرأي الآخر بالحماسة ذاتها، ومع احترامي لهما إلا أن معاركهم الفكرية هذه تظل معارك نخبوية تحصل في أبراج عاجية، وينشغلون بها عن متابعة ما يجري على أرض الواقع، وإلى أين يتجه شباب الأمة. وأظن أن من أعظم الحب لنبينا هو أن تبلغ رسالته ونحفظ أمته من حالة العولمة الجارفة، وإذا تحقق ذلك من طريق ما، فلم لا نسلكه، خاصة أننا لا نتحدث عن نصوص قطعية الثبوت والدلالة في الوجوب أو التحريم؟