لم يشفع شتاء بوسطن القارس لزوجة أحد المبتعثين، ولم يشفع لها ابنها الذي لم يتجاوز العامين من أن يقوم زوجها عضو تدريس إحدى الجامعات السعودية بطردها في منتصف الليل خارج المنزل بعد أن أوسعها ضربا لتسارع بالهروب وطلب اللجوء لأحد المنازل وخاصة أنها وابنها بملابسهم المنزلية في عراء 12 درجة مئوية تحت الصفر.

لم تكن تلك المرة الأولى بل السادسة التي دُفعت بها لطلب النجدة من السلطات الأميركية التي أتت خلال نصف ساعة لتقوم بتوثيق كل إصاباتها بالصور وخلال انتظار وصول المترجم قامت بالتواصل مع أهلها لتنتهي القصة بصمتها ورفضها إكمال الإجراءات خوفا ولتتم إعادتها للسعودية من قبلهم ليظل معنفها مواطنا كامل الأهلية طليقا مبتعثا آمنا فهو قد أمن عقوبة وطنه فأساء الأدب وضرب وأوجع خارجه.

القصة ليست نادرة من النوادر فالصحف المحلية وشاشات التلفاز تغص بالمواطنات المعنفات اللاتي لا وزن لهن ولا قيمة في موازين المواطنة ولكن القصة أعلاه لها جانب مشرق من جوانب الابتعاث الذي سد ثغورا في التعنيف عجزت قطاعات الدولة كافة عن سدها.

معنفة بوسطن قامت باختيار إبلاغ السلطات الأميركية، لولا تدخل أهلها لصدها عنه، وهي ليست الأولى فقد سبقها لذلك مبتعثات أخر تعرضن للتعنيف من قبل أزواجهن وفي ذلك دلالة على الوعي الحقوقي والثقة بقانون ونظام ينظر لهن كمظلومات لا مذنبات كما تعاملهن قطاعات وطنهن الأم والتي تعنى بالتعنيف منذ التبليغ لحين الإيداع بدور الحماية أو إعادتهن لمعنفيهن.

تقوم السلطات الأميركية، وغيرها في دول الابتعاث الأخرى، برصد حالات التعنيف بكافة أنواعها حتى إن لم تقم المعنفة برفع دعوى، أي أن معنفة بوسطن قد تم رصدها في نظام ترصّد التعنيف الأسري الجسدي في الولاية والدولة تباعا، وهذا مهم جدا لتبادل المعلومات بين المملكة والولايات المتحدة الأميركية (ودول الابتعاث الأخرى).

لماذا لا تستخدم هذه البيانات التي تمثل قمة جبل الجليد لإدخالها في نظام محاكاة في وزارتي الشؤون الاجتماعية أو العدل لنصل إلى الأعداد الحقيقية للمعنفات في المملكة؟ هذا الحل هو الأنسب في ظل العجز عن إيجاد نظام ترصّد للتعنيف وبالتالي تخبط سياساتها في التعامل مع ملف التعنيف الأسري.

معنفة بوسطن وغيرها من المبتعثات أو المرافقات المعنفات فرصة ماسية لفهم آلية التعامل مع العنف في دول الابتعاث من قبل قطاعات الدولة لدينا العاجزة عن إيجاد الآلية المعضلة ومازالت تدور في فلك التصاريح الإعلامية البراقة المتخبطة أو تنتظر إقرار نظام يغط في نوم عميق في أحد الأدراج. لماذا لا تقوم وزارة الشؤون الاجتماعية ببذل الجهد والخروج عن النمطية وتقوم بمقابلات معهن باستخدام وسائل نوعية لتحليل تجربتهن ومن ثم تقسيمها حسب دولة الابتعاث ومن ثم تبنيها حسب قدرة البنية القانونية الركيكة الحالية؟

تغيير ثقافة التعنيف المجتمعية يحتاج إلى وقت كأي ثقافة مجتمعية أخرى يتراوح من 20 إلى 30 عاما من بداية المحاولات "الجادة" للتغيير كما تشير الدراسات المجتمعية. والواقع أنه لا محاولات جادة حتى الآن للتعاطي مع ملف التعنيف الأسري في المملكة وبالتالي لن تتغير هذه الثقافة بشكل سريع إلا عن طريق اختصار عامل الزمن بإقرار القوانين والعقوبات وتفعيلها من دون استثناء طبقي ولا شفاعة قبلية. وحيث إن القانون مترهل ولا يتجاوب مع معطيات الشارع واحتياجاته بالشكل المطلوب فلا قوانين أسرية ولا محاكم متخصصة، فلعل الحل المؤقت السريع الحالي هو استفادة الوزارات المعنية بالعنف الأسري من تجربة الابتعاث الثرية في موضوع التعنيف.

الجدير بالذكر أن هذه الاستفادة يجب ألا تقتصر على تجارب المعنفات اللواتي عدن للمملكة بل وحتى تجارب المعنفين الذين تم إنقاذهم وتسفيرهم وإرجاعهم إلى المملكة قبل أن يطبق عليهم القانون وهم بيننا بلا حساب ولا عقاب، بل بعضهم تمت إعادة زوجاتهم إليهم في المملكة رغما عنهن ليستمر العذاب بصمت.

في السفر سبع فوائد وفي الابتعاث ما لا يعد ولا يحصى وفرصة وطنية ثرية لنفض الغبار عن ملف العنف الأسري وإعادة الثقة لمواطنات بأنهن أكبر من مجرد رقم في تعداد سكاني.