تاريخيا، بدأ التغني بالأوطان مع بدء تكوّن الأوطان. وهكذا هو التغني بالحضارات والأمم وأمجادها ما بين ماض وحاضر ومستقبل. إلا أن مصطلح "الأغنية الوطنية" ونموذجها السعودي، وأبرز رموزها، ومراحلها، مازالت موضع بحث، ومحورا جديرا بالمداولة العلمية بين العارفين، والمهتمين بهذا الجانب الفني والوطني. وفي هذا السياق، يؤكد الكاتب أحمد الواصل في حديثه إلى "الوطن" حول الغناء الوطني، أن عبارة أو تسمية "الأغنية الوطنية" تمثل إشكالاً لغوياً واصطلاحياً. وقال: إن "الأغنية" قالب من بين قوالب الغناء العربي الكثيرة "القصيدة، النشيد، الموال" وغيرها, مضيفا أن كلمة "الوطنية" كلمة ذات معنى فضفاض أو ملتبس مثل كلمة "الهوية" أو "الحرية". ويرى مؤلف كتاب "تغني الأرض" الحائز على أكثر من جائزة ثقافية، أن "هذه الأغنية يمكن أن تتوزع وتتشابك مع سواها بارتباطها بالوطن إلى مجالات مختلفة في الحياة الاجتماعية مثل نشيد مدرسي "وموضوعه التعليم وخدمة الوطن" أو أغنية رياضية "لأن الفوز الرياضي يعادل النصر الوطني" أو أغنية وصفية "موضوعها الحنين إلى المكان"، غير أن أنواعها مرتبطة بين "أغنية وصفية" لطبيعتها ومنجزاتها، أو أغنية عن حروبها وحماسها ونصرها، أو أغنية تمجد رمزاً جماعياً. وحول أغنية الحماسة الوطنية التي تشعلها الأزمات السياسية والعسكرية الميدانية، ذهب أحمد الواصل إلى أن الأدب الشعبي زاخر بشعر الفخر والحماسة والمدح، ويرى الواصل أن أعمال هذا الجيل، هي "الذاكرة الثقافية" التي قامت عليها الأناشيد "الوصفية والافتخارية" مثل: "وطني الحبيب" للأستاذ طلال مداح –رحمه الله-، الذي خص أكثر من مدينة بأغنية مثل "حائل وأبها وجدة"، والتي جاء في سياقها أعمال مثل: "روابي قبا" لغازي علي، و"آه يا الرياض" لعبدالمجيد عبدالله، والأغاني "التمجيدية والاحتفالية" مثل "هام السحب" و"هبت هبوب الجنة" لمحمد عبده و"قلنا نعم" لمحمد عمر، و"يا دار" لرابح صقر و"يا سلامي عليكم" لراشد الماجد وسواها.

وتابع.."إلا أنه لا يمكن تجاهل "الأغنية الملتزمة" التي كانت محدودة على المستوى المحلي مع المغني محمد عبدالباقي في السبعينيات مثل النشيد الذائع "نحن النائمون"، وإن كانت لا توازي التجربة البحرينية سواء عند محمد يوسف أو سلمان زيمان أو فيما بعد فرقة أجراس".

ويعتقد الواصل أن ذروة الأغنية المرتبطة بالوطن سواء بالأناشيد والأغاني أو الأوبريت، تمثلت في عقود ثلاثة بين السبعينيات والتسعينيات من القرن العشرين، مشيرا إلى أن نتاج هذه المرحلة هو ما تعيش عليه "الذاكرة الثقافية" حتى الآن.

ويربط الواصل بين ازدهار الأغنية عموما بازدهار الحركة الثقافية، قائلا: لم تكن الأغنيات الوطنية المباشرة أو الرمزية، التي بقيت في الذاكرة منذ الثمانينيات والتسعينيات الميلادية إلا انعكاسا للثراء الثقافي.

ويرى الواصل أن ثمة مواضيع تختص ببعض القيم والمبادئ والأفكار المجتمعية قد تكون خارج استطاعة "الأغنية" إلى أجناس من الكتابة والقول تحتملها وتقدمها بحسب طاقتها ومنافذها. وقال: إن حدث أن وظفت طرق أدائية تعتمد على صيغة مبسطة من الشعر واللحن لمواضيع تعليمية أو نصحية أو إرشادية عن السلوكيات التربوية والعامة، فلن تكون قادرة كقدرة المجالات الإبداعية الأخرى مثل فن المونولوج "الانتقادي والساخر" فترة الستينيات والسبعينيات أو مثل فن التمثيل وأنواعه، برغم التباين في تاريخه المحلي، سواء الإذاعي أو التلفزيوني أو المسرحي أو السينما، بالإضافة إلى تحمل "البرامج المختصة" الكثير من تلك المواضيع مشاركة وتنويعاً لطرق تناولها وتقديمها والتفاعل معها.

من جانبه، يؤكد الناقد محمد العباس أنه لا يوجد نموذج معياري للأغنية الوطنية سواء على المستوى المحلي أو العالمي. وأضاف العباس في حديثه إلى "الوطن": أن هناك من يمجّد الوطن بصراحة لفظية مستنطقاً إرثه التاريخي ومكامنه القومية، مقابل من يتغنى بالوطن من خلال تعداد مآثره الروحية والطبيعية. وقال: "يمكن أن تكون الأغنية الوطنية مكتوبة باللغة العربية الفصحى أو الشعبية المحكية، المهم أن تكون معبّرة عن الإحساس الصادق والعميق بمعنى الوطن".

ويرى في هذا الصدد أن أغنية محمد عبده "فوق هام السحب" تمثل البعد الأول، فيما يمكن اعتبار أغنية طلال مداح (وطني الحبيب) مثالاً للاتجاه الثاني، مضيفا أنه يمكن توفر نماذج متباينة بين المنحيين. وحول أثر الأغنية الوطنية في الوجدان الشعبي، يؤكد العباس عمق هذا الأثر، "حيث يُلاحظ استدعاء بعض الأغاني في المناسبات، وازدياد الطلب عليها، خصوصاً في المناسبات الرياضية حيث يرتفع منسوب الحسّ الوطني، وتمتزج الحماسة الرياضية مع الإحساس بالوطنية. وأشار إلى أن هذا "ما يعني استواء العناصر الفنية والموضوعية فيها.

وعن جنوح الأغنية الوطنية أخيراً إلى ريتم واحد، فاعتبره العباس نتيجة طبيعة لانحياز الأغنية عموماً عن الألحان، واعتمادها على الإيقاع.

وأضاف "حول غياب رموز الأغنية ونجومها الكبار عن هذا الشكل الغنائي"، أنه يعتقد أن للأمر علاقة بارتباك مفهوم الوطن، لدى المبدعين في هذا الجانب.

وقال: إن بعض الأعمال المحلية يحقق بالفعل فكرة التماس بالقيم العليا، خصوصاً حب الأرض، وتسطير كفاح الناس.

ويعتقد الناقد الفني محمد العباس أن الأغنية الوطنية عندما تجنح إلى التماس مع القيم الاجتماعية تنحاز عن مكمنها الجمالي، ولم يستبعد تحولها إلى تراتيل أو أناشيد وعظية، وبخصوص محاولات التغني بالمدن وتفاصيلها الجميلة، كشواهد على الثراء الوطني من نواح كثيرة، ثقافية وفنية واجتماعية وغير ذلك، يؤكد العباس أن أغلب الأغاني التي تغنت بالمدن فشلت، "لأنها في معظم الأحيان تلفيظية، غايتها ترديد اسم المكان والتلويح به كمكان طوباوي"، ذاهبًا إلى أن هذا "ما يُنهك النص الغنائي في المقام الأول، فيما تنجح فيروز بامتياز في "زهرة المدائن" لأنها أغنية تستمد طاقتها المعنوية والروحية من عمق المكان وعراقته".

وينحاز القاص عمرو العامري "في الأغلب" إلى الأغاني الوطنية التي لا ترتبط بمناسبة فتذهب أو تتلاشى بانتهائها. وقال العامري في حديثه إلى "الوطن": لعل أجمل مثال للأغاني الخالدة أغنية الأستاذ طلال مداح (وطني الحبيب) وهي أيضا الأقرب إلى نفسه.

وفي وصفه لهذه الأغنية الشهيرة في تاريخ الغناء في حب الوطن، يقول العامري: إنها أيقونة وطن لم تبل رغم مرور خمسين عاما على إنشادها لأول مرة. وأضاف أن أغنية وطنية جميلة للفنان محمد عمر (وشم على ساعدي نقش على بدني) وبرغم ذلك لم تأخذ حقها الإعلامي، قائلا: "إنها من أجمل الأغنيات الوطنية على المستوى العربي"، ومن كلماتها:

"وشم على ساعدي نقش على بدني

وفي الفؤاد وفي العينين يا وطني

قصيدتي أنت منذ البدء لحّنها

أجدادي الشُّمُ فانثالت إلى أذني"

وأضاف العامري: أن الأغنية الوطنية جهد فردي..من الفنان وكاتب النص..وفي غياب فنانين كبار بحجم طلال مداح والحالة الصحية للفنان محمد عبده وغياب كتاب كبار يكتبون الكلمة الفصحى كالخفاجي خفت كثيرا زخم الأغنية الوطنية ولم تبق سوى اجتهادات لأغان رياضية وأغاني مناسبات تتلاشى بانتهاء المناسبة.

وقال: "للأسف لا توجد هناك أغنية وطنية ملحمية كبيرة ..أغنية تتغنى بالوطن ..أو تمجد الإنسان والمقدسات ..لأن الفن كله لدينا أجتهادي فردي"، مرجعا ذلك إلى غياب معاهد التخصص والكوادر الفنية المؤهلة في ظل الثقافة السائدة التي لا ترى في الفن شيئا مهما.