يصعب رصد المساحات والفضاءات الأولى في المرويات والحكايات الشعبية في ثقافات الشعوب، وتحليل حواجز تمييزها وفرزها وقواعد استخدامها، ومعرفة منظومة بديهياتها، واللغة الشارحة لقواعدها وثبات المبنى والمعنى في بنيتها ونسيجها وسماتها.
إن "المرويات" هي الراصد الحقيقي لهموم وآمال وأفراح وأحزان الشعوب، ولكن الصعوبة المحيرة هي معرفة مبدعها وراويها الأول، ومعرفة اللغة التي ظهرت فيها هذه الحكاية أو تلك، ولكن الدكتور أحمد زياد محبك يؤكد أن: "الدراسات المقارنة يمكنها أن تدل على امتلاك شعوب العالم لغة تعبيرية واحدة هي لغة الأحلام، ولغة اللا شعور الجمعي، وقوامها عناصر تعبيرية تتشابه في بعض الحالات وتتكرر في الحالات الأخرى، مما يؤكد وحدة الإنسان في مشاعره وحاجاته وعواطفه بل في تعبيره الفني، ولعل في الحكاية الشعبية ما يمثل الجذر الإنساني الواحد الذي يغذي الإنسان، ويمده بنسغ ثقافي ومعرفي واحد".. وقد أكد هذه المقولة الأخوان "جريم" حين استلهما حكايات "افتح يا سمسم، وعلي بابا، والأربعين حرامي" وغيرها من الموروثات العربية، نظراً لتماثل الأفكار الأساسية عند هذه الشعوب وانتقال الحكاية من شعب إلى آخر، والمرويات مكون ذهني وجمالي، سواء كان واقعياً أو ممعناً في الخيال، أو مستكنهاً المرئي وغير المرئي، من عوالم الذاكرة التراثية وتشوفات الاستحواذ المتنامي، من خلال مدارات الغرابة والكشف والتجليات، وتفصح كثير من هذه المرويات والحكايات عن تقنيع الدلالات وسربلتها بالمضمون المعرفي، وترسيخ الوعي غير المباشر كحكاية "الشمعة"، وخلاصتها: "أن رجلاً كان له ولدان رباهما خير تربية وعني بهما، وذات يوم أراد امتحان ذكائهما، فأعطى كل واحد منهما بعض النقود، وطلب منه أن يشتري ما يملأ به غرفة من غرف الدار، ذهب الأول إلى السوق، وبعد طول تأمل وتفكير وتجوال في السوق، وسؤال عن الحاجات والأسعار رأى "التبن" أرخص شيء، فاشترى بكل ما أعطاه والده من نقود أكواماً من التبن، وملأ بها إحدى غرف الدار، وذهب الثاني إلى السوق فاشترى شمعة واحدة، ولم يدفع سوى بعض ما أعطاه والده من نقود، ووفر قدراً غير قليل منها، وفي المساء رجع الأب من عمله، فرأى الأول قد ملأ إحدى الغرف بالتبن، على حين ملأ الثاني غرفة أخرى بالنور".
يعلق الدكتور محبك على هذه الحكاية، على الفارق بين من ينفق نقوده فيما هو رخيص في سعره تافه في قيمته، وبين من ينفق نقوده فيما له قيمته الكبرى، مع تفاوت الناس في الذكاء وتوظيف المال، بين حقير وساقط وبين نافع وعظيم.