في المقالات الثلاث الماضية، حاولنا تلمُّس أسباب ثقافة الإدارة التي وجدناها عند قيادي إداري مثقف كخالد الفيصل، وهو يمثل مع غازي القصيبي، نموذجين بارزين للقياديين الإداريين السعوديين المثقفين.
وفي هذا المقال سوف نحاول إلقاء الضوء على مزيد من هذه الأسباب، خاصة وأن الكثيرين يتساءلون من أين استمد خالد الفيصل كل هذا النشاط، وكل هذه الحركة نحو التجديد، والإبداع، والمساهمة في بناء طريق الصلاح والإصلاح التي تتبناها المملكة الآن؟
في ظني ـ وربما أكون على خطأ ـ أن سرَّ خالد الفيصل يكمن في ثقافته، التي أسس لها مبكراً في شبابه، في المرحلة الجامعية، في أكسفورد في بريطانيا. ثم أتبعها بمجالسته لكبار المثقفين السعوديين والعرب العاملين في السعودية، في منتداه الأسبوعي "منتدى خالد الثقافي" في الرياض، ثم عند انتقال هذا المنتدى وبدائرة أوسع إلى أبها، بعد أن تعيّن أميراً لمنطقة عسير.
سر الإدارة الناجحة
ولكن يبقى السر الأكبر في نجاح إدارة خالد الفيصل كامناً في حركته اليومية السريعة والنشطة، وإحساسه العميق بأهمية الزمن وقيمته. فقد كنت أقرأ قبل أيام بعض المقالات للراحل الأديب عبدالله نور (1940-2006) ـ وهو من بواكير الحداثة السعودية ـ وكان صديقاً حميماً للأمير خالد، منذ أيام "منتدى الأمير الأدبي" الأسبوعي (كل يوم أربعاء) في دارته في الرياض في الستينات الميلادية من القرن الماضي. وكان عبدالله نور، قد قال في إحدى مقالاته (خالد الفيصل كيف؟ 23/ 10/ 2002) إن الأمير مثل معظم أبناء عصره من الشعراء المحدثين، يكثُر في شعره الإحساس العميق بالزمن الذي يتغير، ولا يني عن التغير الدائب المستمر المروع.
الإحساس المرهف بالزمن
فحين أكمل الشاعر الخمسين من عمره، قال في قصيدة تحت عنوان "خمسين عام":
سافرت خمسين عام من الزمان
هي عمر ولا على هامش زمان
هي حقيقة علم وإلا هي سراب
هي مواجيع الدهر وإلا حنان..
وحين أكمل الستين من عمره، كتب قصيدة بعنوان "مرّت الستين"، يقول في أولها:
مرت الستين والشايب طفل
توي أدرس في كتاتيب الحياة
مرت الستين ما زال الجرس
كل ما جيت أستره يكشف غطاه
ويقول عبدالله نور، إن الاعتراف بالاقتراب من عمر الخمسين، وعمر الستين شيء غريب في مثل حال الأمير. وإحساسه بحركة الزمن السريعة الخاطفة، ثم مناقشته لأحلامه، وما تحقق، وما لم يتحقق، وعدم وثوقه في صدقية ما تحقق، علامة من علامات قلق الشاعر في هذا العصر. وعلامة من علامات إحساس الشاعر بسرعة مرور قطار العمر. وأن الزمن يقبض علينا، ولا نقبض عليه. وأن على الشاعر أن يتحرك دائماً بسرعة، بل ربما بأسرع مما يتحرك قطار العمر ذاته". كذلك نرى هذه المعاني في قصيدة "السبعين"، حين قال:
غابتْ السـّبعين عن ملْهاتها
تطوي الرّايات عن ساحاتها
كيف عاشتني وأنا ماعشتها
وتحسب إنّي شاربٍ كاساتها
فجرّتْ فيني سؤال المستحيل
واستفزّتني تحدّيّاتهــــا
بعثرتْ لحظات عمري مادرت
إنّي أجمـع بعدهـا لحظاتها
وقد سبق وشرح الفيصل سباقه مع الزمن شرحاً وافياً ومفصلاً، في قصيدته (أسابق السّاعه):
أسابق السّاعه وتسبقني السّاعه
تقضي وانا توّني باوّل ثوانيها
وهذا ما قاله الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون (Bergson 1859-1941)، من حيث أن الزمانَ مُكبّلٌ ومُغِلٌ للإنسان. وأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتمرّد على الزمان، ويتقلّب في أبعاده المختلفة. وهكذا، فإن الإنسان حرٌ طليق، يعيش في الحاضر والماضي والمستقبل، ويتخطى الأشياء جميعها، لا يُقيّده مكانٌ أو زمان. وأن الحيوان والنبات هو الذي يتقيّد بالزمان والمكان. وأن الإنسان يولد فُجاءةً، ويموت فُجاءةً، دون أن يحقق كل ما تمنّاه. ويبقى الزمن أسرع من كل رجاء. ومن هنا، فإن الإنسان يلوم الزمان دائماً، ويشتمه، ويُلقي عليه كل تبعات إخفاقاته.
وقد قرأنا على مرِّ التاريخ الشعري العربي في قديمه وجديده، ذلك الكم الكبير من الشعراء الذين هجوا الزمان، لا لأنه هو القوي فقط، ولكن لأنه عدو الإنسان الذي لا يتيح له أن يحقق ما يريد. وقد نهى الإسلام عن شتم الدهر، وفي الحديث الشريف: "لا تسبوا الدهر، فإني أنا الدهر، أقلّب الليل والنهار". ولم نقرأ للشاعر الفيصل هجاءً للزمان كما قرأنا لشعراء آخرين. ولكنا قرأنا للفيصل في قصيدة (المعاناة) لوماً للنفس، غير القادرة على اجتياز الساعة، ورياح الزمن العتيّة:
اعاني الساعه واعاني مسافات
واعاني رياح الزمان العتيَّه
ومفهوم الزمان وتجلّياته في شعر الفيصل، لم يكن قاصرا على كلمة "الزمان"، وإنما عبَّر عنه الفيصل بالدهر، والوقت، والأيام، والشهر، واللحظة. وكلها كانت تصبُّ في مفهوم الفيصل للزمان، وهو أننا كما قال الإمام الشافعي:
نعيبُ زماننا والعيبُ فينا
وما لزماننا عيبٌ سوانا
ونهجو ذا الزمان بغير ذنبٍ
ولو نطقَ الزمانُ لنا هجانا
والفيصل يشعر بتسلّط الدهر. وهو يُشبّه الدهر بالسيف الذي يقطع الصخر، ويقطع القلوب كذلك، بعدم إتاحته للإنسان لتحقيق رجاه، فيقول في قصيدة (نجمة حياتي):
الصخر تشقه سيوف الدهر
كيف تسلْم خفقة القلب العطيب
وهذا الإحساس الشاعري بالزمن، انعكس على فلسفة الفيصل في الإدارة، من حيث الإسراع في الإنجاز، وإكمال العمل بسرعة، من خلال ما حقق في إمارة عسير، وما يحقق الآن في إمارة مكة المكرمة.
(وللموضوع صلة).