تدق دقاتها الثلاث المعهودة مع خفوت آخر ضوء للواقع، لتحملك بدويها المتسارع مع دقات قبك النابض فتحيلك إلى وهم رائع، ومتنفس وصفه أرسطو بأنه التطهير.
تلك لحظات بين الواقع والوهم حين تدق نواقيس بداية العرض المسرحي والساترة تجر آخر أذيال الواقع، معلنة البداية. كان ذلك في افتتاح مهرجان الهيئة العربية للمسرح بدورته الخامسة متخذاً الدوحة في هذه الدورة مهبطا له. لحظات يمتلئ فيها المسرح بكل الأطياف المبدعة وبرجال الثقافة والفن، وأيضا من الوزراء والأمراء والساسة وحاملي مشعل التنوير، جميعهم ذائبون في بوتقة واحدة لا تعرف الطبقية ولا الشوفونية ولا حتى تمحور الذات حول هالتها، بل الكل هنا سواء على أرض منبسطة ومستوية والسيد هاهنا هو المسرح! يقول وزير الثقافة والفنون والتراث حمد بن عبدالعزيز الكواري في كلمته: "إذا أردت أن تعرف مدى تطور وتقدم أي شعب من الشعوب، فابحث عن فنانيه ومبدعيه، كي تعرف مدى اهتمام هذه الدولة أو تلك بالفن، فكيف إذا كنا نتحدث اليوم عن أبو الفنون" ألا وهو المسرح".. وهذه حقيقة، بالإضافة إلى أننا إذا أردنا البحث عن ظروف أي دولة بمحاورها السياسية والاجتماعية والثقافية والفلسفية والاقتصادية في حقبة زمنية معينة، فعلينا أن نبحث في المسرح، نحلل نصوصه وندرس إبداعه ونخرج منه بكل صيد ثمين. ذلك لأن المسرح شفاف لا يكذب، فالمسرح هو ريشة التاريخ على جدار الزمن، بدون كذب أو مواربة، فربما يكذب مدونو التاريخ، إنما المسرح لا يكذب.
يقول إسماعيل عبدالله الأمين العام للهيئة العربية للمسرح في كلمته الرائعة التي ألقاها في ألق ووجد محمومين بوطنية وعشق للمسرح: "أول الغيث كلمة، وأول البشائر مسرح يهيم في عالم الصورة كي يقبض على خيالات وجمل متحركة لا يقدر على امتلاكها أحد، كالقابض على الجمر وهو يروي سيرة تاريخ مر من هنا".
لم يكن المسرح أول البشائر سيدي، بقدر ما هو البشارة ذاتها، إنه ساعي البريد حين تتشقق قدماه لتصل الرسالة إلى كل بيت فيحول الجمع من الوهم إلى الحقيقة، من الغفوة إلى الوعي، ومن الاسترخاء والترهل إلى استثارة وجدل يزهر ليطرح ثمارا بنكهة حلوة المذاق وأحيانا أخرى بنكهة الحنظل. وعلى أي حال فعبق الياسمين هو ما يغلف أجواءه مهما اختلفت النكهات.
فما هو حال المسرح العربي الذي احتصنته الهيئة العربية في آخر المطاف؟ عله ينجب فارسا مغوارا نحمله على اكتافنا لحظة ألقه وفوزة ونبوغه ونبراسية فكره، علنا نحضر زفة مولده بكل طقوس وأغاني وأهازيج العادات العربية المختلفة لنسميه ونذبح له العقيقة ونطلق ساقيه للريح يمتطي صهوة حصانه الجامح (المسرح). فنجتمع كل عام في مهرجان نشاهد ونحكم ونضع المعايير ونقيم الندوات ونتساءل ونباشر بميلاد فارس جديد، ولكنه حتى هذه اللحظة لم يولد بعد! بالرغم من أن العروبة ولادة خصبة تنتج كل حين فارسا إلا أنها تستعصي على ولادة فارس للمسرح! ولكنه سيولد لا محالة.
وكما يقول الناقد الفرنسي رولان بارت في التفسير: "كل شيء على خشبة المسرح علامة وكل علامة مرجع مجتمعي".. بما يعني أن نوظف كل دالة على الخشبة إلى مدلول.. كظهور إحدى قامات المسرح العربي (ثريا جبران) وهي في غرفة الإنعاش في مصحة بالمغرب - على شاشة عملاقة في خلفية الخشبة - لتقرأ لنا كلمة المسرح العربي بورقة ترتعش بين أناملها والدماء تنساب في خراطيم علقت بساعديها وأنابيب الأكسجين تغوص في فتحات أنفها، لتقرأ ثم تقرأ ثم يُقرأ عنها بالنيابة فهي غير قادرة على الكلام والصمت والوقوف وحتى الحركة، فهل نحيل ذلك على حال المسرح العربي كون تلك الشاشة العملاقة التي تبث ثريا بورقتها ورسالتها فوق خشبته، وقد تعلمنا أن كل ما يوضع على خشبة المسرح لا بد وأن يكون ذا دلالة وانعكاس؟ فهل المسرح العربي في غرفة الإنعاش؟
كل هذه الهواجس كانت تعترينا نحن المسرحيين ولا زالت، إلا أن مهرجان الهيئة العربية للمسرح - والمقام في دورته الخامسة في الدوحة (دوحة جزيرة العرب برونقها وبهائها وتطورها الوثاب الرائع) - كان ذ وهج شفاف في فضاءات المسرح العربي، حيث نفخ النار في طائر الفينيكس الذي لا يستعيد حياته إلا من اللهب وهو كذلك (المسرح). شعرنا جميعا بالزهو ونحن في جمع غفير من النحن إلى الذات الواحدة، نتعاهد جميعا على إيقاظ جذوة المسرح لتعود وضاءة كما عهدناها، وزاد من هذا الوهج تلك العروض الرائعة - ومنها عرض من تأليف كاتبنا السعودي فهد رده الحارثي - تقدمت جميعها للتسابق على جائزة سلطان القاسمي في عرض واحد فقط. ولتذهب الجائزة إلى أي فريق أو إلى أي دولة، لا يهم، المهم هنا هو المسرح المتألق بجهود أبنائه ومبدعيه ورعاته المتفانين في فك سياج كهفه المسحور. ومن هؤلاء الرجال السباقين الشيخ سلطان القاسمي الذي احتضن وأسس هذه الهيئة التي تُوِجت بأنها عربية. جهد رائع وسباق محموم لم ينس المرأة وجهودها، فكُرِمت ست عشرة مبدعة من رائدات المسرح العربي من المحيط إلى الخليج، وكان لي عظيم الشرف أن أكون واحدة منهن، فنهض الرجال جميعهم واقفين بتصفيق حار امتد إلى زهاء نصف ساعة يصفقون تصفيقا حارا للمرأة المبدعة التي نهضت بالمسرح العربي كما نهض به الرجال. وفاءً وإنصافا لها لا يأتي إلا من رجال يقدرون بوعي وبعلم دور المرأة في النهوض بالأمة عن طريق المسرح. تحية لكل الرجال الأحرار الذين بذلوا الغالي والنفيس وبجهد له تقديره في نفوسنا، ولا نستثني ما قدمته دولة قطر في هذا الشأن برعاية أميرها حمد بن خليفة آل ثاني في حضن مدينة رائعة البهاء (الدوحة).