كيف نختار الكتاب الأنسب ليتماشى مع كل ظرف من ظروف الحياة؟ حاولت التأمل في المكتبات الافتراضية (الإلكترونية) التي تشكل قراءاتنا المتتابعة للكتاب نفسه الملون بسياق الكلام الذي تشكلت فيه قراءاتنا.

في نهاية عام 2008، علمت أنه يتعين علي الخضوع لجراحة طارئة جدا. وجدت نفسي ممدا في غرفة في المستشفى، غير مرتاح وقلق، وبحوزتي فقط الكتاب الذي كنت أقرؤه ذاك الصباح، والذي أنهيته خلال الساعات التي تلت. إن قضاء أربعة عشر يوما من النقاهة، دون أن يكون معي شيء لأقرأه، قد بدا لي عذابا يصعب احتماله، وعندما أقترح عليّ صديقي أن يجلب لي بعض الكتب من مكتبتي الشخصية إلى المستشفى، انتهزت الفرصة مقِرا له بالجميل.

لكن أي كتب كنت أريد؟

إن هنالك موسما لكل شيء. سأضيف، في الوجهة نفسها، أن لكل موسم كتابا. فلنشفق إذن على من يجد نفسه مع الكتاب الخطأ في المكان الخطأ. أما الرقاد في المستشفى. ما من أحد، ولا حتى أفضل القراء، يمكنه فعليا تفسير سبب تناسب بعض الكتب مع مناسبات معينة وليس غيرها. فبطريقة يعجز وصفها، تتفق المناسبات والكتب أو تتصارع مع بعضها البعض بصورة غامضة، على غرار البشر.

فلماذا نختار، في لحظات معينة من حياتنا، رفقة كتاب محدد بدل آخر؟ فلائحة الكتب التي طلبها أوسكار وايلد، خلال إقامته في سجن ريدينج، تضمنت مثلا قصة "جزيرة الكنز" لستيفنسن، وكتيبا لتعليم التحادث باللغتين الإيطالية والفرنسية. أما الإسكندر الأكبر فقد أخذ معه، أثناء حملاته، نسخة من إلياذة هوميروس.

أما أنا، فما الكتب التي سأختارها لمرافقتي في غرفتي في المستشفى؟

طبعا إنني أؤمن بالمنفعة الجلية للمكتبة الافتراضية، لكنني لا أستخدم الكتب الإلكترونية، تلك التجسيدات المعاصرة للوائح الآشورية، ولا الصفحات الإلكترونية الصغيرة جدا، ولا الألعاب الإلكترونية التي تجعلنا نحنّ إلى الماضي. فأنا معتاد على حيز الصفحة وعلى المادة الملموسة للورق والحبر، لذلك وضعت ذهنيا لائحة بالكتب المكدسة في منزلي بالقرب من سريري. وضعت جانبا الروايات الصادرة حديثا (لا أخاطر بها كونها لم تثبت جدارتها بعد)، والسير الذاتية، والأبحاث العلمية والروايات البوليسية. أخيرا طلبت من رفيقي أن يحضر لي مجلدي "دون كيشوت دي لا مانشا".

فإضافة إلى قراءتي الأولى لهذه التحفة الأدبية، منذ فترة طويلة، كانت لي قراءات غيرها على مر السنين، في أماكن وذهنيات مختلفة. فقد قرأت "دون كيشوت" خلال سنواتي الأولى في أوروبا، عندما كانت أصداء ثورة مايو 1968 تنذر بتغيرات ضخمة وبحدوث شيء لم يكن بالإمكان تسميته وتحديده بعد، شبيهٌ بالعالم المثالي للفروسية الذي ذهب فارسنا الشهم للبحث عنه.

ثم قرأت "دون كيشوت" جنوب المحيط الهادىء، عندما كنت أحاول إعالة عائلة بمردود محدود جدا، وعندما كانت الثقافة البولينيزية الغريبة عني، تثير جنوني بعض الشيء، على غرار الفارس المسكين التائه وسط الأرستقراطيين. وقرأت "دون كيشوت" في كندا، حيث كان المجتمع المتعدد الثقافات يجذبني بنبرته وأسلوبه الدونكيشوتي. وبإمكاني الآن أن أضيف إلى تلك القراءات والعديد غيرها، دون كيشوتا علاجيا، هو بلسم وعزاء في الوقت نفسه.

لكن تلك الروايات المختلفة لقصة دون كيشوت غير موجودة في أية مكتبة، باستثناء تلك التي أحتفظ بها في ذاكرتي المتداعية. هنا، تمتليء الرفوف باستمرار بأعمال لا وجود ماديا لها.

من الممكن جمع كافة النسخ عن رواية دون كيشوت المنشورة إلى يومنا وفي كافة اللغات، وقد تم جمعها مثلا في مكتبة معهد سرفانتس في مدريد. لكن نسخي الخاصة عن دون كيشوت، تلك التي تتطابق مع كل قراءاتي المختلفة، تلك التي ابتدعتها ذاكرتي ونشرها نسياني، لا يمكن أن تجد مكانا لها سوى في ذهن قارئي.

أحيانا، يكون الانطباع الأول قويا لدرجة أنه لا يدين الكتاب فقط، بل رفاقه أيضا. أحيانا، تدان الترجمة ويتم التغاضي عن النسخة الأصلية. وأحيانا، لا يتم حرق بعض المجلدات إنما فقط وضعها جانبا، كي لا يحرَم القراء المستقبليون من قراءتها.

كافة المكتبات إذن هي رهن بالقراءات التي قام بها من سبقونا. كلها رهن أيضا بتعدد القراء المعاصرين.

إنني مدين جدا لدون كيشوت خاصتي. فخلال أسبوعين قضيتهما في المستشفى، سهر هذان المجلدان عليّ. تحدثا إليّ عندما كنت بحاجة لمن يسليني، أو سهرا عليّ بصمت، إلى جانب سريري. لم يعبرا إزائي أبدا عن جزع، أو تصنع أو تنازل. تابعا حديثا كانا قد بدآ به منذ زمن طويل، عندما كنت شخصا آخر، كما لو أن الزمن كان يجعلهما لا مباليين، كما لو أنه كان من البديهي أن تمر تلك اللحظة أيضا، على غرار انزعاج أو قلق قارئهما، وبأن الصفحات التي طبعاها في ذاكرتي هي وحدها التي ستصمد على رفوفي، وستتحدث عن شيء خاص بي، حميمي ومظلم، لم أعثر إطلاقا حتى الآن على كلمات لوصفه. هذه هي الأهمية الحقيقية للكتاب الذي بدأ يختفي من حياتنا بفضل التكنولوجيا الحديثة التي نخاطبها ولا تخاطبنا، والتي نلهث خلفها ولا ترافقنا على الإطلاق لمسافة أبعد من الحدود المرسومة لها بدقة عبر الحيز المتاح لها.