طالب مجلس الشورى مؤخراً هيئة الرقابة والتحقيق بتحديد المسؤولين عن تعثر المشاريع في المملكة،حيث أقر المجلس توصيات لجنة الإدارة والموارد البشرية بشأن تقرير الهيئة، ومطالبتها بتضمين تقاريرها المقبلة تحديد مسؤوليات الجهة صاحبة المشروع والمشرفة عليه وأسباب التعثر وكيفية معالجته.
لا شك أن تحديد مسؤولية تعثر المشاريع يعتبر من أهم التحديات التي تواجه الأجهزة الرقابية عموماً، وتوصية مجلس الشورى بهذا الخصوص تعتبر مؤشرا يدل على وجود إشكالية تتعلق بتحديد المسؤولية.
صحيح أن "الرقابة" استطاعت تحديد العديد من أسباب تعثر المشاريع، لكنها في الوقت ذاته لم تستطع تحديد المسؤولية عن وجود هذه الأسباب، وبالتالي محاسبة ومساءلة المتسبب في ذلك، فعلى سبيل المثال: من أسباب تعثر المشاريع السماح بتحالف مقاولين من درجات تصنيف مختلفة، حيث ينتهي الأمر إلى قيام المقاول الأدنى درجة بالتنفيذ على حساب الجودة، والسؤال المطروح هنا: إذا كانت الأنظمة والقوانين في الأساس تتضمن أن هؤلاء المقاولين مسؤولون بالتضامن عن تنفيذ المشروع، فلماذا لا يحاسب المقاول الرئيسي على سوء التنفيذ الذي أدّى إلى تعثر المشروع؟ أليس هو المسؤول الأول عن التنفيذ؟، ولماذا لا يحاسب المسؤول في الجهة الحكومية الذي سمح بالتضامن أو بالتحالف مع مقاولين غير أكفاء؟ والسؤال الأهم: من هو المسؤول في النهاية: هل هي الجهة الحكومية أم المقاول، أم الاثنان معاً؟.
فإذا افترضنا أن المسؤولية تقع على عاتق الجهة الحكومية، فمن المسؤول؟ هل هي الإدارة المشرفة على المشروع والمتمثلة في إدارة المشاريع؟، فإذا كانت كذلك ..فهل المسؤول هو مدير الإدارة أم المهندسون التنفيذيون أم المكتب الاستشاري؟ وإذا افترضنا أيضاً أن المسؤولية تقع على عاتق إدارة المشتريات التي قامت بطرح المشروع في منافسة عامة وقامت بإجراءات الترسية..فهل المسؤول مدير الإدارة أم الموظفون، أم اللجان الفنية وفحص العروض؟ وفي النهاية ما هي مسؤولية مديري العموم ووكلاء الوزارات والوزراء أنفسهم؟.
المثال السابق يعطي صورة مبسطة عن تعدد المسؤوليات عن تعثر المشاريع، التي قد تعطي انطباعاً أولياً عن وجود صعوبة وتعقيد في تحديد هذه المسؤولية، الأمر الذي جعل مبرراً لبعض الجهات الحكومية في الهروب والتنصل من مسؤولياتها تجاه تأخر وتعثر مشاريعها.
فنجد بعض الجهات الحكومية يلقي بالمسؤولية على عاتق جهات حكومية أخرى، أو على المقاولين، أو تقديم (كبش الفداء) من صغار الموظفين لتنتهي القضية برمتها، وبعض المقاولين أيضاً فهموا قواعد اللعبة في تقديم المبررات التي تؤدي في النهاية إلى ضياع المسؤولية.
يقول علماء الإدارة:" لو تركنا كل شخص في الوزارة أو الشركة يفعل كما يبدو له دون أن نحاسبه!، لا شك أن الاحتمال الكبير هو حدوث "فوضى"، وبالطبع فإن المحاسبة لن تتم إلا بوجود مسؤوليات محددة، وبضياعها أو التنصل منها فلا يمكن محاسبة أو مساءلة أي شخص مهما كان منصبه.
فيما يلي، استعرض بعض القضايا الافتراضية، لتوضيح كيف تستطيع بعض الجهات الحكومية التنصل من مسؤولياتها، بمبررات جعلت الكثير منا يتساءل بصوت مرتفع "من المسؤول إذن؟":
• يقوم بعض المسؤولين بكتابة عبارة "لاتخاذ اللازم نظاماً" على المعاملات الرسمية، في حين قد صدرت الأوامر واتخاذ القرار بشكل مسبق، ولكن شفهياً وبالتالي عدم تحمل المسؤولية رسمياً، وعند المحاسبة يقول المسؤول وبكل بساطة: "لقد أمرت باتباع الأنظمة والتعليمات ولكن الموظفين لم يلتزموا بذلك!".
• يتم تشكيل لجان متعددة لدراسة موضوع ما مع اتخاذ القرارات بشكل مسبق، وذلك لإضفاء الصبغة القانونية على القرارات المتخذة دون أدنى مسؤولية، وبالتالي لن يتحمل متخذ القرار أية مسؤوليات نحو النتائج المترتبة على ذلك، بناءً على توصيات هذه اللجان، كما أن اللجان قد تتعذر أيضاً بأن توصياتها غير ملزمة وهي عبارة عن دراسات فنية وعلمية بحتة.
• عند ظهور نتائج سلبية لقرار ما، فإنه في الغالب يتم إلقاء كامل المسؤولية على المنفذ وليس متخذ القرار، لذا نجد أن العقوبات تفرض على صغار الموظفين بسبب الإهمال أو التقصير، وليس بسبب سوء القرار نفسه.
وبناءً على ما سبق، فإننا قد نقرأ بعض التصريحات لبعض مسؤولي الجهات الحكومية في الوسائل الإعلامية أو دفاعاتهم في محاكم القضاء الإداري، بالقول تارة بأن: " تقرير فلان أو الإدارة الفلانية قد ضللني!"، وتارةً أخرى بالقول:" تم اتخاذ القرار بناءً على دراسة الجدوى الاقتصادية الواردة من الإدارة الفلانية" أو القول: "تم إيقاع العقوبة الرادعة على الموظف الفلاني"...، وهكذا.
في علم الإدارة تعتبر المسؤولية الوجه الآخر للسلطة، ويجب أن تكون متكافئة معها، حيث إنه إذا زادت السلطة عن المسؤولية فإن النتيجة هي "الطغيان"، وإذا زادت المسؤولية عن السلطة كانت النتيجة هي "الشلل"، ولا أبالغ إن قلت إن واقع بعض الجهات الحكومية أن الصلاحيات فيها تزيد كلما صعدنا إلى المستويات الإدارية الأعلى مع نقصان المسؤولية، والعكس يحدث في المستويات الإدارية الأدنى حيث تزيد المسؤولية وتقل الصلاحيات، وبعبارة أخرى هناك "طغيان" في الإدارة العليا مع وجود "شلل" في الإدارة التنفيذية، وهذا في اعتقادي يمثل أحد أهم الأسباب في ضياع المسؤولية وعدم تحديدها.
صحيح أنه يوجد في الجهات الحكومية خرائط تنظيمية توضح خطوط السلطات والمسؤوليات، و يوجد أيضاً أدلة تنظيمية ووصف وظيفي للمناصب الإدارية إلا أنها مجرد حبر على ورق في بعض الجهات، والسؤال كيف يتم تفعيلها على أرض الواقع؟
هناك نسبة كبيرة من الأموال العامة تنفق على المشاريع الحكومية لتسريع عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، واقع النتائج التي حققها بعض المشروعات الحكومية، أقل من الطموحات التي كان بالإمكان تحقيقها، وواقع الحال جدير بأن يدفع الجميع إلى التعرف على معوقات التنمية الإدارية في المملكة وتسليط الضوء عليها.