لا شك أن الحدث الأهم في البلاد هذه الأيام هو تعيين خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز –حفظه الله- لثلاثين سيدة، من أصل مائة وخمسين عضواً، عضوات في مجلس الشورى للمرة الأولى في تاريخ المجلس. وهي خطوة في الاتجاه الصحيح نحو إشراك المرأة السعودية في الشأن العام بشكل أكثر وضوحاً وفعالية، وإشارة إلى أن المملكة ماضية قدماً في مسيرتي الإصلاح والتنمية. وبالرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً وتعترضه عقبات وصعوبات، إلا أن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، ولهذا فإن هذه الخطوة جديرة بالاحتفاء، وهذا الحديث يشكل دفقة أمل لجيلنا والأجيال القادمة بأن المستقبل سيأتي بالأفضل، إن شاء الله.

تصادف أيضاً أنه خلال الأسابيع القليلة الماضية غطت الصحافة السعودية، وعلى رأسها صحيفة الوطن، قضية فتاة سعودية عشرينية تم تزويجها غصباً من رجل ثمانيني، وقد هربت منه قبل أن يبني بها، وتدخلت هيئة حقوق الإنسان السعودية وتمكنت من إنهاء هذا العقد بالتراضي بين كافة الأطراف بعد رد المهر للعريس. إلى هنا والقصة تبدو عادية، فقد تكررت لدينا كثيراً حتى ما عادت تستحق المتابعة، بل قد تكون أقل من عادية حيث إن العروس هنا ليست قاصراً كما في بعض الحالات السابقة، ولربما كنت سأعلق للوهلة الأولى، كما فعل الكثيرون عبر الصحف ومواقع الشبكات الاجتماعية، بالتعليقات إياها والتي تتحدث عن الظلم الذي تتعرض له المرأة، وأن الرجل، أباً كان أو زوجاً يعدها سلعة تباع وتشترى، وأن الأهالي يبحثون عن الإثراء السريع عن طريق المغالاة في المهور. وسيتطرف آخرون ويضيفون بأن السبب كله وراء ما حدث هم شيوخ الدين أو المتشددون والذين يعتقدون – والكلام لهذه الفئة- بأن المرأة نكبة وفتنة وشيطان لا يمكننا أن نأمن شرها إلا بتزويجها لأول طارق.

تفصيل صغير رأيته في صـورة نشرت مع هذه القصة جعلني أنظر للقصة مـن زاوية مختلفة تماماً، زاويـة يتم للأسف إهمالها دوماً، لأنها ببساطة لا تخدم معركة الاستقطاب بين المتشددين والليبراليين الأزلية، وهي قضية الحاجة والعوز. فالصورة تظهر رجلاً يقف مع طفله أمام منزل صغير من القش!

نحن لسنا أمام أب متجرد من المشاعر وشخص يبحث عن الإثراء عن طريق بيع ابنته، بل نحن أمام إنسان مسحوق ضاقت به السبل وهداه تفكيره البسيط بأن يزوج ابنته لمسن ثري مقابل خمسة وأربعين ألف ريال، وبالتالي يسهم هذا المبلغ في إعالته مع زوجته وأطفاله الاثني عشر، في حين ستتخلص ابنته في الوقت نفسه من هذه المعيشة الضنكة وتنتقل لسكن سيكون بالتأكيد أفضل من هذه العشة. فبحسب ما نشرته جريدة الشرق عن والد شريفة واسمه علي شويعي وهو من سكان قرية الشبقة في جازان "دفعني الفقر لتزويج ابنتي من المسن حيدر الذي يكبرها بسنوات كثيرة، فقد عشنا حياة ضنكاً لا يعلم بها إلا رب العباد، كما أني لا أملك أي أوراق تثبت هويتي، وكذلك ابنتي، فقد منعتني ظروفي المادية عن متابعة معاملاتي في الجهات الحكومية، لأحصل على بطاقة أحوال".

حين شاهدت الصورة ومن ثم قرأت ما ذكره والدها شعرت بالخجل من نفسي، لأنني عندما سمعت بالخبر للمرة الأولى حكمت في سري عليه وعلى أسرته بشكل مسبق بأنهم جهلة وطماعون يبيعون فلذات أكبادهم لأجل حفنة دراهم، ولم يكن يدور في ذهني وقتها أن السبب وراء هذا التصرف أبسط بكثير مما تخيلت وأصعب بكثير مما ظننت، وهو السبب الذي يقف خلف الكثير من الجرائم منذ قديم الأزل: الفقر المدقع.

كيف نطلب من شخص يصارع مع أسرته الجوع كل ساعة، والهم كل يوم، بأن يتصرف كمواطن صالح ومسلم واع؟ هنا رجل محروم من حق إثبات المواطنة، لأن مركزيتنا القاتلة تجبره على السفر للرياض لاستصدار هوية ولكنها لا توفر له في الوقت نفسه المواصلات المجانية التي تمكنه من تحقيق ذلك، ومن دون هوية فلا تعليم ولا صحة ولا ضمان اجتماعي ولا مسكن ولا شيء إلا رحمة رب العالمين وما يجود به المحسنون. هذه قضية لا علاقة للمحافظين بها ولا شأن لليبراليين فيها، هذه قضية الإنسان المطحون حتى النخاع في بلد بلغ الفائض في ميزانية هذا العام رقماً فلكياً غير مسبوق. الغريب أنني لم أقرأ في ثنايا التغطيات الإعلامية المختلفة لهذه القصة تفصيلات تتحدث عن كيفية دعم هذه الأسرة بعد الطلاق، فدور هيئة حقوق الإنسان يجب ألا يكمن فقط في إبطال زواجات الإكراه وحل قضايا العنف الأسري، وإنما كذلك ضمان تحقق الحد الأدنى من مقومات الحياة لهذا الإنسان.

لعل هذه القضية المؤسفة جاءت في وقتها ومتزامنة مع جلوس المرأة السعودية تحت قبة مجلس الشورى، ومن المتوقع أن تنصب اهتمامات هذه السيدات في المقام الأول على قضايا المرأة الملحة، والتي قد يبدو سببها ظاهرياً مجرد لعبة شد الحبل بين القطبين الأعلى صوتاً في المجتمع، لكن في الحقيقة فإن مثلث الفقر والجهل والمرض كثيراً ما يكون كامناً خلفها، فإذا أردنا إصلاح وضع المرأة السعودية، فذلك لن يتحقق دون النظر لها من هذه الزاوية ودون تحسين أوضاع الأسرة السعودية بشكل عام وتهيئتها لأن تكون هذه البيئة الحاضنة للجنسين معاً.

فإذا كانت المعيشة الضنكة نكبة وبلاء على الناس بشكل عام، فإنها في حالة المرأة والطفل تكون أشد، لأنهما الحلقات الأضعف في المجتمع، وغالباً ما يقدمون كقرابين في معركة الحياة والموت مع هذا الوحش.