"رغم تواضع تعليمنا، إلا أننا نجحنا في إدارة حياتنا الخاصة، وحياة من ارتبط معنا وبنا، سواء من الأبناء أو الأقارب والجيران".. تلك الكلمات لم تكن وليدة الصدفة، بل هي عبارة انطلقت من رجل مسن تجاوز الثمانين من العمر وهو أبو مشعل، حينما بدأت تظهر عليه مشاعر الغضب جراء الحالة الأسرية المتدهورة لأسرة ابنه الثلاثيني، حيث يقول أبو سعود واصفا الحالة الأسرية لولده: بـ "المبعثرة والمشتتة". وقال: لم يفلح ابني في إدارة شؤون أسرته وهو متزوج ولديه خمسة من الأبناء أكبرهم في الخامسة عشرة من العمر وأصغرهم طفلة لم تتجاوز السنة الثالثة من عمرها، فطبيعة عمله تتطلب منه البقاء لعدة ساعات خارج المنزل. وتابع أبو سعود: لم يكتف ولدي بذلك البعد العاطفي بينه وبين أطفاله، بل إنه لجأ في الفترة الأخيرة إلى طلب عمل إضافي، ظنا منه أن توفير المتطلبات المادية للأسرة أهم بكثير من حضوره العاطفي. وقارن أبو سعود بين الحضور العاطفي للأب في الفترة الحالية والفترة الماضية قائلا: لم يكن يثير اهتمامنا سوى تربية أبنائنا، وبناء جسور الثقة والمحبة والمودة والاحترام بين الأب وعائلته: وقال وهو يشيد بالعادات والتقاليد الأسرية الموروثة التي نشأ عليها الآباء والأجداد قديما: إن الأب قديما يعد مصدر الأمن والحماية بالنسبة للأسرة، فمهما كانت مشاغله إلا أن مسؤوليات أطفاله وأسرته تبقى في مقدمة المسؤوليات.
واستطرد قائلا: أما اليوم فقد تخلى العديد من الآباء عن مسؤولياتهم ورُحلت تلك المسؤوليات إلى الأم في حال وجودها في المنزل، أو إلى العاملة المنزلية، وتعجب أبو سعود من الحال الذي وصلت إليه بعض الأسر الحديثة في هذا الزمن قائلا: بعض من الآباء والأمهات في هذا الزمن يتهربون من مسؤولياتهم، ويجعلون من الارتباطات العملية، وتوفير المادة شماعة تعلق عليها تلك الاتكاليات، وما قيمة كل ذلك في ظل انهيار أسري وعدم تقارب وترابط.
في المقابل اشتكت الطالبة الجامعية فاطمة العليان من غياب والدها العاطفي وقالت: والدي موجود معنا جسديا فقط ولكن تفكيره موجه بشكل لا إرادي نحو عمله، ولم نتجرأ يوما أنا وأخوتي على طرح مشكلة من مشاكلنا التي نواجهها سواء في المدارس أو الجامعات عليه، كل ذلك يرجع إلى الجفاء العاطفي، وبناء جسور من المسافات العاطفية بيننا.
وترى المشرفة التربوية عائشة العازمي أن التواصل المعنوي مهم جدا في تحديد العلاقة بين الأب وأبنائه، مشيرة إلى ضرورة بناء جسور من الثقة بين الطرفين لاسيما وأن ذلك التواصل المعنوي له أثره في الصحة النفسية للأبناء، ومن ثم تنعكس تلك الصحة على الأسرة والمجتمع بأكمله.
واستطرت العازمي في حديثها قائلة: إن غياب الأب عن أسرته جسديا ومعنويا بداعي البقاء فترات طويلة في العمل يؤثر بشكل خطير على جميع من في الأسرة لاسيما الزوجة والأبناء، خاصة إذا ما كانت الزوجة موظفة فتضطرها الظروف لأن تتسيد الدورين معا دور الأم ودور الأب، والنتيجة كما وضحت العازمي هي بأن تكون الأم غير قادرة على مواجهة كل تلك الأعباء خاصة فيما يتعلق بالتربية، وفي ظل غياب الأب، مما يجعلها تقع فريسة سهلة للمطبات النفسية، وتابعت: إن أخطر ما يفرزه غياب الوالد هو حضوره الجسدي وغيابه العاطفي المتجه نحو العمل.
وترى أخصائية التربية الأسرية مسفرة الغامدي أن وجود الأب وحضوره من الجانبين المعنوي والمادي مهم جدا خاصة في هذه الأزمان التي اختلفت عن سابقتها، فمصادر التربية اختلفت وتنوعت في الوقت الحالي بينما كانت قديما مقتصرة على الوالدين فقط.
وأشارت الغامدي إلى ضرورة الموازنة بين الأسرة والعمل خاصة فيما يخص الأبناء بالنسبة للأب والأم، لأن ما يتعلمه الأبناء من والديهم يبقى أثره ما دامت الحياة باقية لهم، بينما ما يتم تلقينه من أي مصدر آخر فهو سريع الزوال.
ونصحت الغامدي الأبوين بضرورة الحضور العاطفي على الصعد الأسرية وألا يكون كل همهم الحضور المادي وتلبية المتطلبات المادية للأبناء التي لا تغرس القيم والمبادئ لديهم بل تشبع غرائزهم وحوائجهم المادية التي قد تطغى على احتياجاتهم العاطفية والفكرية.