الشاعر محمد آل عبده الألمعي ـ رحمه الله ـ مارس تماهيه مع طبيعته الفاعلة، فحرر صوته الشعبي "المشعرن" والمنسرب تحت ضغط الزمن البهي، والراكض فوق المدى التخييلي لتورق كلماته بعمق واتساع وحساسية عالية، مما أثرى وخصّب رؤاه وقيمه وتجاربه في مشهد تصويري وحكائي بسيط، تسنده ثقافة مكتسبة منحت قصيدته الطراوة والارتواء والحضور والحكمة: "صبرت أبغي زماني يستوي لي غير صبري طال. وقلت إن الفرج ياتي متى ماكبروا عيالي. ولكني عرفت أن الأماني تخدع الرجال. كما قيل الزمن غادر وفيه المر والحالي. وليت الناس في نعمة ومستورة وعال العال وكل يرفع المغنى ودايم خاطره سالي. ولكنا نغطي الشمس وسط الظهر بالغربال. ونخفي ما يواجهنا من أهوال وغربالِ. ونشرب من حياض الدهر بالحفنة وبالفنجال. ولا أبغي واحد غيري يشاركني بفنجالي".. يقسو آل عبده على الزمن ويحمله الأوزار والخطايا والتحولات، التي أصابته بالفجيعة في سياق الصيرورة الحياتية. يكثر من النوح والتأسي ويحاول الانفلات من قبضة الواقع المرير، ليعود إلى بكاراته الأولى لترتسم في قصيدته لحظات الصحو والتجلي والحنين المستبطن في تخثرات الذاكرة، وليمارس الانقذاف والانتباه الفطري والافتتان بتلك المشهدية التراثية: "تقول أمك أقول أمي ذهب ما ينقلب لونه. جنيه وعملة صعبة من التقليد مضمونة. تخصصها في (املهب) ولبستها في (امجونه) وتعرف فننا الشعبي وتتقن كامل لحونه. ومن في الكون مثل أمي يشيل الحب ويصونه. تغني والرحى معها ترد الصوت فرحانة. وتطحن قوتنا اليومي وكم تتعب على شانه"..

قبل عشر سنوات دخل مكتبي يغمر وجهه الوسيم الحياء والطيبة والفروسية ونبل التواضع، وقدم لي ديوانه المخطوط (ألمع أجدادنا والعشيرة) تصفحته وتعجبت من ذلك (الملازم المظلي) الذي لم تسرق ولم تخطف ولم تروض رحلاته وأسفاره الدولية نبرته الشعبية الوارفة، حتى ولو كانت في فرنسا وسويسرا وألمانيا، وبقي يزهو ويرتجل ويتقمص رداءها وهتافها المخضل على لسانه، فكتبتُ له مقدمة الديوان وقلت: (في الورقات القادمة ستقرؤون لشاعر تصعد كلماته من عطر محبرة عاشقة للأرض وللإنسان، يسفح مواويله كشلال ريحان على وجه الصباحات الألمعية، فكل قصيدة هنا هي ورقة تقويم من دفتر عمره الأبيض، يبتل صدره بليل الحكايات فتستيقظ كلماته على وسائد الحلم، تبدو حروفه كسيقان السنابل وأهازيج السدر ورائحة القرى المعلقة حين تغمرك أنفاسها الحرّى في هجير التهائم) واختتمت المقدمة (جاءت قصيدته دافئة كالحياة، واضحة كالسنى عذبة كأجنحة العصافير، متدفقة كينابيع (الصما) حين تركض كضفيرة نجمة عاشقة أرقها الوله).