إن للعَلَم لسارية، وإن للقلم لجارية أحبار لا تنضب. فهل استغنى أي منهما عن الآخر؟ وإن قلنا إن سبق الأخير سابقه منذ أن وُجد الإنسان على وجه الأرض؟ قد لا نبالغ في هذا إن قلنا منذ ما قبل التاريخ، لما له من أهمية في استقرار البشرية وتنويرها وتوطيد أركان الأرض أن تميد من تحت أقدامها. وقد كان النبي (شيث) أو إدريس عليه السلام كما دونته كتب التأصيل، هو أول من خط بالقلم وهو الملقب (بالمثلث)، لأنه حكيم ونبي وابن نبي كما ذكر السويدي وابن كثير. ولهذا كانت الأسبقية للقلم عن العَلَم لرفع هامته ليرفرف فوق بقعة ما على وجه الأرض.

ولقد أثبتت النظريات الاستراتيجية الحديثة أهمية الأحبار قبل الأخبار في زعزعة أمم أو استقرارها، ليكون - القلم - أحد؛ بل أهم هذه القوى في صنع القوى وسيادتها، فالأحبار تجري مجرى الدم في رقاب الشعوب، فتعمل ما لا تعمله السيوف، وبالتالي فهل أدرَّ كُتّابنا قطرة من أقلامهم في هدير محيطات الأحبار العالمية في هذه الأيام؟

ولن ندخل في تنظيرات ثقيلة من تنظيرات ما يسمى بـ(القوى الناعمة) التي يقودها (الفكر) العالمي الجديد بكل آلياته، وأهمها القلم وحامله. فهل أُعْطِي القلم العربي حقه في عالمنا الحالم الجديد؟ ولمَ؟ إن كانت الإجابة بالنفي؟ لا أستطيع الإجابة عن هذا السؤال بالنفي أو بالإثبات! لأن لكل قاعدة نتائج قد تخرج عنها، ولذلك فالقاعدة خاوية وتحتاج إلى إعادة نظر. فلننظر في قديم الأفكار وحامليها منا... وهل استلهمنا شيئا من حياة العونيّ؟

يقول الكاتب والمؤرخ (فهد المبارك) في كتابه من شيم العرب: "من لا يعرف "العونيّ" فإنه لا يعرف شيئا عن تاريخ الجزيرة العربية... احتل الرجل الصدراة في أندية حكام ذلك العهد، حيث أضاف إلى شجاعته الأدبية شجاعة الرأي".

وللعوني رأي سديد أخذ به جلالة الملك عبدالعزيز في مجلس مليء بالشيوخ والقمم ذات الهمم، إلا أن الملك عبدالعزيز ـ طيب الله ثراه ـ أعطانا درسا تاريخيا في رحابة الصدر وتقبل الرأي ولو كان من ابن أحد البنّائين مثل العوني، فأعطاه حق الكلمة وحق إبداء الرأي، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل أخذ برأيه طيب الله ثراه، لأنه رأى في قول العوني رأياً سديدا وشجاعا يفوق آراء الكثير من الجالسين في حضرة جلالته. وكان للعوني صولات وجولات في الرأي قبل الشعر والأدب، وهو ابن رجل كان يحترف بناء بيوت الطين اسمه عبدالعزيز العوني من قرية من قرى القصيم تسمى "الربيعية"، يقول المبارك: "شاء القدر أن يلْمَع نجم ابن البنّاء في قلب الجزيرة العربية وأن يلعب دوراً خطيراً في تاريخ هذه البلاد، وذلك منذ عام 1318 إلى عام 1340".

وذلك بفضل الله ثم بفضل حاكم أعطى للفكر والرأي حقه حتى لو كان ابن أحد البنّائين، فالثقافة والرأي ليسا حكرا على نخبة وصفوة، كما عَلمنا ـ طيب الله ثراه ـ من هذا الدرس الذي سجله التاريخ، فكان العوني شاباً يافعا، لا يبدو عليه النبوغ ولا الفطنة أو ما إلى ذلك، ولكنه أًعْطِي فأعطَى فكان يقول:

"اتديبج وماني بدبوجة/ وأسفه العلم كأني ما تمعنا به، والمشايل بصدري ثقل منسوجة/ أفتح الراي إلى منه غلق يابه.

فكان ممن رفع راية (البيرق) خفاقة. فينشد في ملحمته الخالدة في إحدى الغزوات مع الملك عبدالعزيز مخاطبا ابن بصيص فيقول:

آخذ برية والعواصم خلفهم/ خلي منازلهم يطير ترابها، وأنكف على هجر وخيّم جمعه/ وخيله على هجر تدوس خصابها، وآمر على قومه تقود كسوبها/ وادوي كما دلو عدا جذابها..

فكان العوني من رجال لهم تاريخ، وذلك لما تتطلبه شجاعة الرأي قبل شجاعة الأدب، ولحكمة الملك عبدالعزيز وتواضعه واحتضان أصحاب الرأي والفكر.

والمفكرون كُثُر في يومنا هذا، والذي يطلب منهم شجاعة وفعل في مثل هذه الأيام التي تنفتح علينا طواحين الإعلام العالمي التي تحمل الكثير من الضار قبل المفيد، فلم نرَ أياً من المنُظَّرين العرب قد سكب رضاب قلمه في محيط هذه السماوات، وأصدر نظرية أو رأيا، ليكون قلما عالميا يفرض نفسه أمام نظريات فريدريك أنديك أو توماس فريدمان وغيرهما كُثُر. وشجاعة القلم تسبق العَلَم كما أسلفنا، وإن كانت تسير في ركابه، فللمفكرين عظمة يرف بها العَلَم إن أخلصوا له. وبهذا وجب الفكر كما تجب الشجاعة واتساع الرقعة ونشر الأقلام، فللتاريخ العربي دُهاته الذين خدموه ولكن لا تدون أسماؤهم، يقول المبارك في هذا الصدد: "ما يقوم به أفراد الشعب من أعمال إيجابية من شيم ومكارم وشجاعة في الرأي إلخ.. لا يعبأ بها الكثير من مؤرخي بلادنا".

فأنَّى لنا أن نُثري أفكاراً شجاعةً تقف على حد المساواة مع مفكري العالم الجدد الذين صدَّروا لنا أفكاراً ونظريات استهلكناها دون أن نجد لها صدى في أرجاء أخرى من العالم؟!

أعتقد أن رايات الأقلام لا بد حتما أن ترفرف في هذا الزمن الذي قال عنه محمد عفيفي مطر: "عسى أن يخجل الصغار أو يستشعروا بعض الخزي من دمامة وقماءة الادعاءات المعاصرة في تقاتل الأجيال وقتل الأب والبدء من خارج التاريخ والجغرافيا واحتقار التراث واللغة، ووهم البدء من نقطة الصفر، وصفاقة الزهو بالانخلاع من كل ما يربط الشاعر والقصيدة بهول الأحداث وعواصف الدم والنار ومشاهد البؤس اليومي وانفساح الحياة بالطبيعة وجذور الانتماءات ومكابدة الإنسان".. ثم يقول: "عسى أن نخوض تجربة النظر العميق إلى معترك الحوار الجاد في العالم كشرط من شروط الإبداع في هذا الزمن، زمن محاولة إعادة صياغة العالم صياغة جديدة تجتاحها دعوات الصدام والكوكبة وبطش القوى التي تحرص على التعبد في محراب ذاتها ومصالحها لاقتلاع شعوب الأرض من ملامحها وذواتها".

فبين القلم والعَلَم قصص وحكايات لا تتأتى إلا لمن سبر أغوار الحكمة والرأي والشجاعة والرعاية أيضا، فسواري الأعلام دوما هي أقلامها.