الحماس المتزايد في الفترة الأخيرة والذي يبديه بعض الدعاة المحليين وبعض رموز الأحزاب الإسلامية في بلدان الربيع العربي للنموذج التركي بسبب النجاح الذي تحقق في دولة تركيا في عهد حزب العدالة والتنمية بزعامة رجب طيب إردوغان على اعتبار أنه حزب إسلامي يحكم تركيا في الوقت الحاضر، يحتاج إلى إعادة نظر وفهم أعمق لدولة تركيا ونظام الحكم فيها. الدستور التركي ينص على أن تركيا دولة علمانية تؤمن بفصل الدين عن الدولة بشكل كامل، وبناء على هذه الحقيقة فإن النموذج التركي - المفضل لدى هؤلاء - يقوم على العلمانية الغربية التي تؤمن بفصل الدين عن الدولة بشكل كامل منذ أن أعلنها كمال أتاتورك في مجلس الأمة التركي عام 1924 قائلا "إن تركيا دولة علمانية لا تأخذ قوانينها من الغيبيات ولا من الكتب السماوية" ولقد حافظت تركيا على هذا النهج العلماني منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم حتى إن حزب الرفاه وهو حزب يغلب عليه الطابع الإسلامي بزعامة نجم الدين أربكان تم حظره في عام 1998 بتهمة انتهاك علمانية الدستور.
الحزب الحاكم في تركيا حزب يلتزم بعلمانية تركيا وهذا ما أكده رجب طيب إردوغان رئيس الحزب ورئس تركيا حاليا، عندما صرح بأن الحزب سوف يحافظ على علمانية تركيا، ورغم ذلك يتم استدعاء هذا النموذج من قبل الكثير وبشكل متكرر في الحديث عن نجاح الأحزاب الإسلامية دون إشارة إلى أنه حزب علماني أو حزب يقبل بالعلمانية ويطبقها، وثمة خلط واضح في هذا الأمر بين عقيدة الحزب وعقيدة أعضاء وأتباع الحزب من قبل هولاء المعجبين الذين يضربون به المثل من أجل إثبات قدرتهم السياسية على النجاح، ويراهنون عليه ويرونه نموذجا قائما لنجاحهم. فهل نفهم أن المعجبين في كافة البلدان العربية والإسلامية بالنموذج التركي، معجبون بالنموذج العلماني ولا يمانعون من تطبيقه بشكل كامل؟ لا أعتقد ذلك على الإطلاق! فليس من السهل على حركات أصولية وأحزاب أسلامية تقف موقفا عدائيا من العلمانية وبعضها رفع شعار "الإسلام هو الحل" أن تنقلب على نفسها وتقبل بالعلمانية في نهاية الأمر، ولكن يبدو أن البعض منهم يأخذه الحماس والرغبة في البحث عن نماذج النجاح وربما محاولة مخاطبة عواطف العامة والتهييج والإثارة والرغبة في تجيير النجاح دون تفكير دقيق في الأمر، وربما دون وجود قناعة حقيقية.
سبب آخر للحماس للنموذج التركي هو أن الغرب والولايات المتحدة الأميركية مؤيدون للنموذج التركي ويتمنون انتشاره في البلدان الإسلامية ويرون في الأحزاب المتفرعة من حزب الإخوان المسلمين والتي برزت في الواجهة في دول الربيع العربي أن تكون نموذجا تركيا جديدا في البلدان العربية.
ومن يعرف هذه الحقيقة لا يستغرب دعوى التمسك بالنموذج التركي من قبل القيادات المؤثرة في هذه الأحزاب لأنه يضمن لهم تأييد أميركا والغرب أو عدم كسب عدائهم على أقل تقدير. الإنصاف يقتضي القول بأن نجاح حزب العدالة والتنمية في قيادة تركيا ليس بسبب التزامه بالعلمانية الغربية فقط، وفي نفس الوقت لا يمكن تجيير هذا النجاح أنه بسبب أعضاء الحزب الملتزمين بالدين الإسلامي أكثر من أسلافهم المنتمين لأحزاب أخرى. فالقيادات الإسلامية في حزب العدالة والتنمية وقبله حزب الرفاه وجميعها أحزاب ذات صبغة إسلامية أظهرت قياداتها قدرا كبيرا من المرونة والواقعية السياسية في التعاطي مع القضايا المدنية والسياسية. ويعتقد البعض أن سبب نجاح حزب العدالة والتنمية في تركيا أنه جمع بين أمرين، كلاهما ضروري للدولة الحديثة، أنه اعتمد القوانين العلمانية الوضعية لإدارة البلاد، وفي نفس الوقت أنه ينبع من الجذور الإسلامية بصفتها تمثل السواد الأعظم في تركيا ويلتزم أعضاؤه بممارسة الدين الإسلامي الذي يدين به معظم الأتراك. ويمكن القول إن الشعب التركي وجد ضالته في حزب ينتمي للـقاعدة الضخمة من السـكان وفي نفس الوقت يلتزم دستور عملي حديث لإدارة البلاد.
الفائدة من النموذج التركي تؤكد نجاح المسلمين في التعايش مع التعددية والديموقراطية وحتى مع الدستور الوضعي وهذا ما ينبغي التركيز عليه بشكل واضح حتى لا تختلط الأمور على الأحزاب الإسلامية في دول الربيع العربي الذين يزعمون أنهم يتبعون النموذج التركي ويرون في أنفسهم نموذجا تركيا جديدا رغم أنهم لا يقبلون بجميع ما قبل به حزب العدالة والتنمية في تركيا فيما يخص القبول بفكرة علمانية الدولة، وهي قضية مفصـلية ومؤثرة في مسيرة هذه الأحزاب ولذلك يبـقى الفرق كبيرا وواضحا بين حزب العـدالة والتنمية الحاكم في تركيا وبين من يدعي أنه يسير على طريقه.