جلست في ليلة أتجاذب أطراف الحديث مع أحد الأصدقاء من أحد بلدان ما يسمى (الربيع العربي)، قلت له وقد ظننت أني أتيت بالرأي السديد: إن إزالة رأس النظام لا تمثل إلا قمة رأس جبل الجليد-كما يقولون بالإنجليزية- إذ ما زال هناك الجبل بأكمله تحت سطح الماء ضارب بجذوره إلى أعمق أعماق البحر، وما خوفي على حركة الوعي في عالمنا العربي وهي تصطدم بهذا الجبل وتطيح رأسه إلا كخوف ركاب (التيتانيك) وهم يصطدمون بالجبل ذاته! نظر إلي صاحبي وما راق له ما تفتق عنه خيالي من جموح بارد أشد من برودة الجليد الذي أتحدث عنه، صمت برهة وكأنه أراد أن يجاريني في جموحي هذا بأن أرخى على برودته شيئاً من الظلام لتجتمع كآبة فوق كآبة حين أخذ نفساً فيه عمق وقال معقباً ببرود أشد من برودي: ومن قال لك إنه جبل واحد!
هل هذا تشاؤم؟ أم أنه أمر طبيعي في حركة الوعي والصراع الأزلي بين الخير والشر؟ هل قُدّر على أهل تلك البلاد وغيرها من البلاد على مر التاريخ أن يعانوا الأمرين مع أنظمة جائرة ثم يأتي وقت بعد التخلص من هذه الأنظمة يترحمون فيه على الأيام الخوالي لازدياد معاناتهم؟ أم أنه ثمن للحرية ومهر لها لا بد أن يدفع؟ عموماً، تجاذبت مع صديقي أطراف الحديث، اتفقنا واختلفنا قليلاً وكثيراً، لكنه راعني حين عدد الجبال التي تصطدم بها حركة الوعي وذكر بعد الفساد وتلون أشكاله وتعدد جباله، الاقتصاد وتبعاته، والسياحة، والتعليم، والصحة لكن أكثر ما راعني هو حديثه عن الإنسان، قال والألم يعتصر قلبه.. أي شيء بقي في إنسان نشأ في ظروف صعبة في كل شيء، صعبة في رزقه ولقمة عيشه، في سكنه، في تعليمه، وفوق كل ذلك في كرامته، فلا حرية، وإنما تسلط يأكل الأخضر واليابس؛ هل يشعر هذا الإنسان بتفرده، وبكيانه، وباستقلاله؟ هو حر الآن؟ أم يظن أنه حر؟ هل تحرر من أسر قيوده؟ وما عساه أن يفعل بحريته وهو ما زال في نفس المركب ولكن من كان في الخلف أصبح هو الذي يقود الآن؟ جدل ولغط، انتخابات ومظاهرات واستفتاءات، ثم ماذا؟ هل سيصبح الطريق أقل وعورة أم ستزداد وعورته؟ بل هل سيستمرعلى ظهر المركب أم سيجد نفسه ملقى في بحر تتلاطم أمواجه بلا حوت يلتقمه؟
تركت صديقي وما بثه فيّ من جرعة لا أخفي أن فيها قدراً من التشاؤم لكن أظن أن فيها قدراً من الواقعية أيضاً. قرأت في عدد نوفمبر من المجلة العربية للدكتور علي الخشيبان قوله: "إن الصورة الكبرى التي نراها اليوم في عالمنا العربي عقب الثورات العربية هي محاولات كبرى لتحسين شجرة التخلف ووضع بعض المحسنات والمقويات السياسية والثقافية والاجتماعية في حوض هذه الشجرة لعلها تنمو وتتحول إلى شجرة تطور بشكل طبيعي وهذا مستحيل..." "...أُسقط الفرعُ السياسي بغصونه وأوراقه من شجرة التخلف وذهب الرؤساء، ولكن الشجرة قائمة بفروعها الأخرى.. فهل الثائر العربي يريد تغييراً سياسياً ولا يريد تغييراً ثقافياً في مجتمعه؟"
لا أزيد على ما وصفه الكواكبي من أثر الاستبداد على مسخ النفوس حين يقول: "الاستبداد أشد وطأة من الوباء، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفوس من السؤال.." وأتفق تماماً أن مدخل الإصلاح الثقافي هو أولى المداخل التي يجب أن تدخلها أية أمة باحثة عن نفسها لموقع رفيع في سلم الحضارة، وليست الظواهر الثقافية المرضية التي بالفعل شكلت أزمة قيم وسلوكيات عطفاً على كونها مشكلة أفكار ومبادئ وتصورات وحدها ما يجب شرحه وإيضاحه، خذ مثلاً -كما أفاض محمد يتيم في نظرية الإصلاح الثقافي- ثقافة التبرير، الثقافة الانتظارية، الثقافة الخرافية، ثقافة الاستبداد وصناعته، الفساد حين يتحول إلى ثقافة، ثقافة الزاوية وفيها نقد لنموذج جماعة الأتباع، إلخ ولكن ما يهمني في هذه العجالة هو الإشارة إلى البعد الإنساني في الثقافة، أو لنسمها إن شئتم إنسانية الثقافة..
الإنسان لا يكون إنساناً حتى يكون محسناً متأصلاً فيه الشعور بالخير والرغبة في نشره فيمن حوله، ولا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا فاضت معاني الرحمة من جنباته لتشمل أخاه الإنسان، بل تشمل الشجر والحجر والحيوان، ألا نقرأ في الحديث أن امرأة دخلت النار في هرة.. وألا نقرأ أن ري عطش كلب لاهث يغفر ذنوب البغايا.. أم أننا نتخير من النصوص ما نشاء ونفسرها بنظرنا القاصر كما نشاء ونظن أن تفسيرنا وحده هو الحق المطلق الذي لا مراء معه، لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان حراً، وأكبر ملهم للحرية هو توحيد الخالق سبحانه، فإذا سجد القلب لخالقه ما قام من سجوده إلى يوم يبعثون! يتحرر الإنسان حينئذ من الأوهام والخرافات، من العادات البالية والتقاليد الميتة، يتحرر من ظلم الظالمين وتسلط المتسلطين، يتحرر من أسر المرض والفقر والخوف، ويتحرر من بهرج المال والجاه والمنصب، وكما آمن هو بحريته فسيؤمن بحرية غيره لأنه "لا إكراه في الدين"، فالحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس، فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة، يتصل أولها بظلمة الرحم، وآخرها بظلمة القبر كما يقول المنفلوطي. لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان جميلاً، جميلاً في مظهره ومخبره، جميلاً في قوله وفعله، لا يكون إلا كنحلة لا يستهويها إلا جميل الرائحة وبديع الشكل من زهر الإبداع والإنتاج، لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا تأمل جمال ذاته وبديع صنعه ونفسه وتلذذ بالجمال المبثوث حوله في صفاء القمر ودفء الشمس وهدر البحر، لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان محباً، أليست العبادة هي الحب؟ وهل يبقى أي شيء في إنسان بلا حب؟ لا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا كان صادقاً، أو ليس الصدق أشرف لقب يستطيع أن يناله بشر؟ أسألكم ما كانت شهرة النبي – صلى الله عليه وسلم-؟ وما كان وصف أقرب أصحابه إليه؟ أو ليس الكذب تجريداً للمؤمن من إيمانه وللإنسان من إنسانيته؟ ولا يكون الإنسان إنساناً إلا إذا تألم!! ولعل أعضل داء يمكن أن تصاب به النفس-كما يقول زكريا إبراهيم في مشكلة الإنسان- هو أن تصبح غير قادرة على التألم! فليس الألم بحد ذاته خيراً، وإنما بما يستجلبه من خير للإنسان الذي يستخدمه كأداة لرقي روحي وسرور أعمق!
سئل فيلسوف يوناني كان يدور بمصباحه في بياض النهار: ما تصنع بهذا المصباح في هذا النهار؟ فقال: أفتش عن إنسان! لا تذهب هارباً عزيزي القارئ ولكن لنبحث معاً عن الإنسان في ذواتنا!