الدساتير الوطنية يفترض أن تعبّر عن إرادة الناس المنتمين لوطن واحد. عادة ما تبدأ الدساتير بـ"نحن الأميركان أو نحن الفرنسيين". ديباجة الدستور المصري الجديد بدأت بـ "نحن جماهير شعب مصر". إلا أن الصورة لن تكتمل إلا إذا وضعنا هذه الإرادة وهذا النص الدستوري ضمن شبكة إرادات الشعوب الأخرى ونصوص دساتيرها. النص الدستوري الذي يولد اليوم هو يولد ضمن عائلة أكبر من النصوص الدستورية ومرتبطا بشكل أو بآخر ضمن هذه الشبكة من العلاقات. لا يعني هذا طبعا أن الدستور الجديد سيعبّر بالضرورة عن توافق مع هذه الشبكة بقدر ما يعني أنه داخل هذه الشبكة وحركته لن تفهم بوضوح إلا ضمن هذه العلاقات التي ستحدد بشكل أو بآخر طبيعة قراءته وفهمه.
البعد الذي أريد التركيز عليه هنا هو بعد جوهري لشبكة الأبعاد التي يولد فيها أي نص سياسي واجتماعي بحجم الدستور. ضمن الظروف السياسية والاقتصادية والتاريخية التي تحكم إنتاج أي دستور هناك البعد العالمي أو العرف العالمي الذي تم تجسيده في غالب دساتير الشعوب اليوم. بمعنى أن الدستور المصري الجديد مثلا يمكن أن يقرأ من عدة اتجاهات. يمكن قراءته ضمن سلسلة الدساتير 1923، 1956، 1971 في مصر الحديثة أو ضمن تاريخها الأقدم مع الفراعنة والمسلمين والعثمانيين والاستعمار والاستقلال. ما أريد الإشارة له هنا هو قراءة هذا الدستور باعتباره أحدث دستور (زمنيا) في العالم. هل يعبّر هذا الدستور عن تقدّميّة في قيمه ومعانيه توازي حداثته الزمنية؟ هذا السؤال لا يمكن إجابته إلا بوضع هذا الدستور ضمن الدساتير الأخرى ومقارنته بها.
إرادة الشعوب اليوم وهي تكتب دساتيرها محكومة بشكل أو بآخر بقيم معيّنة استقرّت عالميا. على سبيل المثال لا يستطيع أي شعب اليوم أن يضع في دستوره تقنينا للرق. لو فعل ذلك افتراضا فإن ما يسميه دستورا لن يأخذ قيمة الدستور عند أحد بل سيعتبر عمل لا دستوري يرفضه العالم ويقف ضده ولو نظريا. كاتب الدستور اليوم يكتبه وعينه على العالم من حوله. يكتبه وهو يعلم أنه يريد أن يضمّه إلى عائلة الدساتير الأخرى في الأمم المتحدة وغيرها من المنظّمات الدولية. هذا الدستور ليس فقط وثيقة للمتعاقدين في الداخل بل هو وثيقة بين هذا الشعب والشعوب الأخرى التي سترتبط بالضرورة معه بالضرورة في علاقات على كافة المستويات.
من أكثر الأمثلة وضوحا على ما أقول الحالة التركية والحالة البوسنية. الدستور البوسني كان محكوما مسبقا بأعراف ودساتير المجتمع الدولي وخصوصا الاتحاد الأوروبي. اشتراطات مثل احترام حقوق الإنسان، الديموقراطية، المساواة بين المواطنين وقضايا أخرى كثيرة لها علاقة بالاقتصاد والعلاقات الدولية كانت محسومة سلفا. الحالة التركية أيضا مثال مميز. على مرّ العقد الماضي كان الدستور والقوانين التركية تخضع لتعديلات كثيرة كشروط للانضمام للاتحاد الأوروبي. اشتراطات متعلّقة بحقوق الأقليات ونظام الجنسية وعلاقة الدولة بالسوق، كانت عناوين للتعديلات التي أجريت ولا تزال على الدستور التركي. الدستور هنا في علاقته مع الخارج يضعنا أمام الصورة الأكبر لدستور ضمن عائلة من الدساتير ومجتمعات ضمن عائلة من المجتمعات.
التأثير الدولي على الدساتير المحليّة في غاية الجديّة ويشهد تقدّما واضحا في العقود الأخيرة. أسباب عديدة خلف هذا التأثير أهمها برأيي انفتاح العالم على بعضه وسرعة التواصل وسهولته بين الناس. باختصار المجتمع الداخلي أصبح بشكل أو بآخر مجتمعا دوليا يعكس تنوع العالم في الخارج. المجتمع الياباني مثلا يتشكّل من خليط هائل من الجنسيات والأعراق وليس من الممكن تجاهلهم. الجالية الكورية في اليابان هائلة جدا ولم يعد من الممكن لليابان التحرّك في شؤونها الداخلية دون أخذهم بعين الاعتبار، أو بمعنى آخر لم يعد ممكنا لليابان التحرك في شؤونها الداخلية دون أخذ كوريا بعين الاعتبار. لا توجد اليوم دولة يمكن استثنائها من هذه الحالة، والمستقبل يعد بتنوع أكبر وحركة أكبر لمواطني العالم بين دول العالم المتجه يوما ويوما لمزيد من العولمة.
أقوى التوجهات الموجودة على الساحة العالمية اليوم هي موجة "حقوق إنسان في كل مكان". هذه الموجة تعني أن هناك حزمة معيّنة من حقوق الإنسان تنتقل معه في أي مكان بغض النظر عن النظام السياسي أو الدستور المحلي. هذه الحقوق، وغالبا تتوافق مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، غير قابلة للتجاوز من أي سلطة كانت. هذه الموجة محمية اليوم بقوانين تزداد صرامة وفاعلية مع الوقت كما تزداد قوتها بالنشاط الإعلامي العالمي الذي يضع السلطات المحلية تحت نقودات عنيفة تؤثر على حركتها وفعاليتها السياسية متى ما اخترقت هذه الحقوق. اليوم هذه الحزمة مكفولة لمواطني الدول القوية في العالم. المواطن الأوروبي والأميركي والكندي والياباني والأسترالي على سبيل المثال يتحرك اليوم فعلا محميّا بهذه الحقوق مهما كان مكان عيشه ومهما كان موقف الدستور المحلي من سلوكه.
هل نحن إذن في عصر "موت الدستور" بمعناه المحلي لصالح دستور إنساني عالمي؟ هذه نقطة إشكال تعاني منها كثير من الدول التي وقعّت من جهة على اتفاقيات الأمم المتحدة التي تلزمها بقوانين دولية محددة وفي الجهة الأخرى تشرّع قوانين تعارضها في الداخل. هذه المشكلة موجودة حاليا وتنتظر فقط انتقالها من حالة القوّة إلى حالة الفعل. أي أنه في حالة حصول المنظمات الدولية، وليس الحكومات، على قدرة على محاسبة ومتابعة تنفيذ الاتفاقيات التي وقّع عليها الأعضاء كما يفعل الاتحاد الأوروبي مع أعضائه، فإن هذه المشكلة ستصبح مشكلة حقيقية ومباشرة للجميع. ربما نقول إن العالم يتجه ولو بشيء من الارتباك نحو دستور عالمي فضفاض من جهة سماحه للاختلافات الثقافية، وصارم من جهة حمايته ولو نظريا لحقوق الإنسان الأساسية. ربما نكتشف قريبا أن الصراعات المحلية على الدساتير هي صراعات خارج التاريخ.