من منا لم يقرأ كتاب "حياة في الإدارة" للعلم السعودي الشهير غازي القصيبي، ومن منا لم يبحر طويلاً في توثيقه التاريخي لمرحلة مهمة من تاريخنا السعودي، وبالذات فترة الطفرة الاقتصادية خلال عهد الملك خالد رحمة الله، لقد تحوّل كتاب "القصيبي" مع مرور الزمن إلى وثيقة تاريخية، ومرجعٍ معتبر لا غنى عنه للباحثين والمهتمين، وللذين يريدون أن يتعرفوا بشكل أوسع على التحولات الكبيرة التي خاضها مجتمعنا السعودي خلال عقود قليلة.
للأسف لا يزال عددٌ كبيرٌ من المسؤولين الكبار، والأدباء والمفكرين يحجمون بشدة عن كتابة سيرتهم الشخصية، ويحرمون الوطن والمواطن خلاصة تجاربهم الثرية، بل ويضيّعون الفرصة لاستكمال كتابة تاريخ بلادنا وبناء مؤسساتنا، فالتغيرات التي عشناها خلال فترة قصيرة كانت سريعة ومتنوعة، ولا بد من توثيق أحداثها، وشخوص مراحلها، على لسان من عاشها وشارك في كتابة فصولها.
يشير الباحثون أن أعمال السيرة الذاتية السعودية نادرة جداً، حيث لم تتجاوز الستين عنواناً خلال الفترة (1954-2010)، ولم يكن للمرأة السعودية نصيب منها سوى كتاب واحد! وأسباب هذا الإحجام متعددة، وتختلف من شخص إلى آخر، فمنهم من يرى ألا تجربة لديه تستحق أن تروى، وآخرون يرون ألا أحد سوف يستفيد منها، وغاب عن هؤلاء أن العمل البشري، وخصوصاً المؤسسي منه يتصف بأنه عملٌ تراكمي مستمر، تحتاج الأجيال الجديدة دائماً إلى خبرة من سبقهم من الرواد، ومن عانى قبلهم نفس المشاكل والعقبات، فضلاً عن الدروس والعبر الناتجة عن الأحداث والمشاكل التي يمر بها صاحب السيرة، وكيف تجاوزها، أو كيف وقفت حجر عثرة أمام طموحه، أما البعض الآخر فيمتنع عن الكتابة خوفًا من قول الحقيقة، سواء كانت له أو عليه، وفي ذلك ظلم شديد لجمهور القراء، خصوصاً إن كان يعمل في وظيفة عامة، وطبعاً نحن لا نريدها سيرة ذاتية فضائحية، كما فعل الأديب اللبناني "سهيل إدريس" مؤسس دار الآداب اللبنانية الشهيرة، والتي تناول فيها جوانب فضائحية في حياته الشخصية، لا تناسب القراء الشرقيين في مجتمع محافظ، رغم أنه لعب دوراً كبيراً في النشر الأدبي بلبنان والعالم العربي. أما القلة الأخرى فيتحججون بعدم قدرتهم على الكتابة وجلدها، وغاب عنهم أن دور النشر لديها من يقوم بدور التحرير والمراجعة، بحيث يظهر المنتج النهائي قابلاً للقراءة السهلة، والمفيدة كذلك؛ حينما تضاف إليه مجموعة من الفهارس، وأدلة الأعلام والأماكن، وبعض الحواشي والمعلومات الإضافية المناسبة.
لقد قدم نخبة من الرعيل الأول خلاصة تجاربهم في وسائل نشر مختلفة، فمنهم من كتبها متسلسلة على حلقات في الصحافة المحلية، مثل ما كان يكتبه علامة الجزيرة العربية الشيخ "حمد الجاسر" في "المجلة العربية" تحت عنوان: "من سوائح الذكريات" والذي تناول فيه كثيراً من الجوانب التي لا تعرف عن تاريخ الصحافة السعودية، وخصوصاً في المنطقة الوسطى، أو الشيخ "أحمد عطار" عن ذكريات وقصص صحافة المنطقة الغربية، أما غيرهما فلقد أصدروها في كتاب مثل الأديب العصامي "عبدالفتاح أبومدين" حينما أصدر سيرته الذاتية تحت عنوان: "حكاية الفتى مفتاح" التي تناول فيها تاريخ المدينة المنورة، والأهم مسيرته قائداً للنادي الأدبي الثقافي بجدة على مدى ربع قرن، بينما اقتصر البعض على تقديم لمحة من سيرته الذاتية في سياق قضيةٍ أوسع كما فعل الدكتور "عبدالله الغذامي" في كتابة "حكاية الحداثة"، أما الكتّاب فلقد هربوا من مأزق السيرة الذاتية إلى فضاء الرواية، كما فعل "تركي الحمد" حينما أصدر ثلاثية "أطياف الأزقة المهجورة" وغيره من الروائيين السعوديين، والذين تحولت روايتهم في نهاية الأمر إلى رجع صدى لحياتهم الشخصية ولكن عبر شخصيات أخرى!
طبعاً لا يجب أن تقتصر كتب السيرة الذاتية على من تقدم بهم العمر، بل إن العبرة تقاس بالتجربة، والدور الذي لعبه الفرد، بغض النظر عن عمره، فها هو المصري "وائل غنيم" رغم أنه لم يتجاوز عقده الثالث من عمره، يوثق دوره ودور وسائل التواصل الاجتماعي في الربيع المصري على صفحات كتابه الأول: "الثورة 2.0"، الذي يعد مثالاً لكتب السير الذاتية، حيث جمع المؤلف المادة وسردها، بينما قامت دار النشر بالتحرير والمراجعة اللغوية والتاريخية، ليظهر كتاب مكتمل الجوانب الفنية، وليقدم فائدة ذات قيمة للقارئ.
من المثير للأسى أنك في أي زيارة سريعة للمكتبات التجارية المحلية تجدها مليئة بالسير الذاتية لكل مسؤول أو مشهور غربي، فكل ما يحتاجه الأمر فقط مجرد أن يتقاعد المسؤول، ليبدأ على الفور كتابة مذكراته، اعتماداً على وثائق وصور متوفرة، بينما لا نجد إلا نزراً قليلاً من السير الذاتية لأعلامنا السعوديين، وهم الأحق بقراءتنا، وتدبر سيرتهم، فهل اللوم يقع على دور النشر أم على الأعلام أنفسهم؟ أم اللوم يقع على عدم وجود صناعة نشر قادرة على تقديم منتج متكامل يستطيع جذب الجمهور لاقتنائه، والاستفادة منه؟ المؤكد أن الأمر الذي نحتاجه هو ضرورة قيام النوادي الأدبية المنتشرة في مناطق المملكة؛ بالعمل على تشجيع من يستحق أن يروي قصته على أن يقوم بكتابتها، وأن يهتم كل ناد أدبي برواد منطقته، فالمسألة تتجاوز مجرد سيرة ذاتية لفرد واحد، بل إنها تاريخ وطن ومسيرة شعب، نحتاج إلى توثيقها، وجعلها مصدراً حقيقياً لتاريخنا السعودي المعاصر.