قبل سنتين اطلعت على عرض من إحدى الوزارات لجهات مطلوب منها تقديم عروض للحصول على عقد لأحد المشاريع فكان من ضمن المطلوب: (توفير عدد 2 ناسخ آلة طابعة)!

وقبل ثلاثة أشهر اطلعت على عقد آخر بين جهة حكومية مع جهة إعلامية من القطاع الخاص تهتم بالتصميم والنشر، احتوى هذا العقد على ما يقارب من ثلاثين شرطا ليس لها علاقة بطبيعة المشروع ولا بطبيعة عمل الجهة الإعلامية، فمما طلب من الجهة الإعلامية وفق تلك الشروط على سبيل المثال ما يلي: "وعلى المقاول أن يزيل آلياته من الشاحنات وبقية المركبات من موقع المشروع وتنظيف الموقع من كل بقايا العمل.. وأن يعيد كافة العمالة التي جلبها للمشروع إلى ديارهم.."!

أستحضر هذا النموذج المتمثل في عقد عمل يشترط موظفا يجيد الطباعة على آلة النسخ التي اندثرت منذ سنوات طويلة، والنموذج الآخر الذي يطلب من جهة تصمم وتنشر الكتب والمجلات إزالة الآليات والرافعات والخرسانات وتنظيف مكان المشروع، لأقول باختصار شديد إن هذه النماذج تثبت أن الكثير من القطاعات الحكومية حتى اللحظة غير قادرة على التجديد والابتكار والمبادرة، فهي رهينة لكل ما هو قديم، ابتداء فيما يتعلق بالمراسلات والخطابات ونصوص العقود وحتى طريقة الرد على المراجعين عبر العبارات الشهيرة المنطوقة والمكتوبة (راجعنا بكرة، والنظام لا يسمح، والمذكور، وحسب النظام، إلخ)، مرورا بآلية العمل نفسه القائم على كثرة الطلبات والشروط والتعقيدات والتأخير في الإنجاز وسوء الخدمات، وانتهاء بما يثبت أن هذه الجهات غير مهتمة مطلقا بتطوير الأنظمة والقوانين التي تناسب المرحلة التي نعيشها، ولهذا يستمر تذمر الناس وشكواهم من كثرة التعقيدات وكثرة الطلبات وقلة العمل وسوء الخدمة أينما ذهبوا.

في ظني أن العلة في معظم ما نشتكي منه داخل الإدارات الحكومية تكمن في افتقاد هذه الجهات للمبادرات التي تصنع جديدا وتحرك ساكنا وتفتح آفاقا وتشعل حماسا، ولست أدري أين تكمن المشكلة؟

فهل الأنظمة في الجهات الحكومية لا تسمح لمنسوبي هذه الجهات بالمبادرة والابتكار والتجديد أم أن النظام يسمح لكن الموظف الحكومي لا يجد في محيط عمله ما يحفزه لكسر المألوف وملاحقة الجديد بحثا عن الإبداع؟

ما أتمناه أن تصدر قرارات تنسف كل الأنظمة والقوانين القديمة المعمول بها في القطاعات الحكومية، وإحلال أنظمة وقوانين جديدة تتلافى ما بات غير مقبول وغير مفيد في عصرنا الحالي، كما أتمنى أن تصدر توجيهات أخرى بإعادة النظر في آلية ترقية الموظف الحكومي بحيث لا يتساوى من يعمل مع من لا يعمل، وأن تكون هناك مزايا وحوافز للمبدعين والمخلصين والمبادرين، وأن يكون قياس الكفاءة بالإنتاج لا في غير ذلك، لنحدث تغييرا جوهريا في عمل الموظف الحكومي وفي القطاعات الحكومية، وبالتالي لتتغير الصورة النمطية السلبية عن الموظف الحكومي، التي هي في جانب كبير منها أقرب إلى الحقيقة.