هكذا وجه خادم الحرمين حديثه للوزراء "لا عذر لكم بعد اليوم"، فهذه الميزانية التي تم إعلانها تلزم كل صاحب منصب أن يقوم بأداء ما عليه دون تفريط أو تراخ. لست هنا أقدم تحليلاً مالياً للميزانية فقد سبقت لهذا ممن هو أعلم بذلك مني ولكنني أشارك القارئ الكريم في بعض خواطر عن التنمية أتمنى أن تصل لكل وزير وكل مسؤول عساها أن تصل لمن هو أوعى من قائلها.

لابد أن نقر بأن هنالك تباينا جليا واضحا بين هذا الدخل الضخم لمملكتنا الحبيبة وبين مستوى الخدمات التي تقدمها الوزارات والجهات الخدمية للمواطنين في شتى مناحي الحياة بدءا من التعليم والصحة اللذين هما محور الثروة البشرية الشابة والطاقة الهائلة التي لدينا في المملكة ومروراً بالبنى التحتية والمرافق العامة والنقل وانتهاء بالخدمات الاجتماعية والحد الأدنى من مستوى الدخل والإسكان.

ومع هذا الإقرار لا بد لنا أن نتساءل عن الأسباب التي أدت وتؤدي بنا إلى هذا التباين بين دخل الدولة ومستوى الخدمة الذي تؤديه مرافقها العامة وجهاتها المختلفة، ومع هذا التساؤل لا بد لنا أن نسمع من مسؤولينا في هذه القطاعات الإجابات المقنعة التي يرضى عنها قبلنا ولي الأمر الذي وجه لهم عتبه المؤدب "لا عذر لكم"، ويرضى عنها المواطن الذي لم تصله الخدمة كما أرادها ولي الأمر أن تصل إليه.

على الرغم من أن الدولة تعلن لنا بكل شفافية هذه الأرقام إلا أن الوزارات مازالت تعمل دون أن نرى منها خطتها السنوية ومدى ما تحقق منها ومبررات عدم تحقق هذه الخطط، مازال كثير من المعلومات التي تقدمها هذه الجهات تتمثل في ما تم إنجازه فقط دون إشارة إلا إلى النزر اليسير لما لم يتم إنجازه وهو الأهم لولي الأمر وللمواطنين.

من المفترض أن تكون مواقع الوزارات على الإنترنت هي مرجعنا لمعرفة التوجهات وأرقام التطوير المستقبلية لدينا ونسبة المنجز وغير المنجز منها، ولكن زيارة هذه المواقع في الغالب لا ترينا إلا كلاماً عاماً في الرؤى والاستراتيجيات التي تبقى دائما أجمل من الواقع والحقيقة، ومن باب ضرب المثال أنصح القارئ الكريم بزيارة موقع وزارة الصحة مثلاً الذي يبدو ممتلئاً بالمعلومات في نسق جميل، ولكن سؤالي أين المعلومات المتعلقة بالمستقبل وبالتزامات الوزارة برفع معدل الأسرة ورفع مستوى الخدمات الصحية في المحافظات والمراكز ذات الكثافة السكانية الأقل، وأسباب التأخر في تنفيذ المشاريع السابقة لوزارة الصحة ومعايير السير في هذه المشاريع، أنا شخصياً بحثت في الموقع جيداً وقرأت الكتاب الإحصائي لعام 1432 ولم أجد جواباً.

الموقع الرسمي لوزارة التربية والتعليم قد يكون أفضل من الموقع الرسمي لوزارة الصحة، ولكنني لم أجد فيه أرقاماً جدية عن الوضع المتردي للمعلمات في المراكز والهجر، وما تم بشأن رفع مستوى المواصلات وخفض معدلات ضحايا الطرق السريعة منهن، وعلى الرغم من أن الموقع يتيح لنا الاطلاع على العرض المرئي الذي قدمه سمو وزير التربية والتعليم لمجلس الشورى إلا أن هذا العرض بذاته يتحدث عن الخطة الاستراتيجية للوزارة والخطوط العريضة لتوجهات الوزارة. هنالك معلومات عن المباني الجديدة للمدارس الحكومية التي تم الانتهاء منها واستلامها، ولكن ليس هنالك مقياس واقعي يمكن من خلاله تقييم مستوى الإنجاز بالخطة التفصيلية للوزارة.

إشارتي لوزارة الصحة ووزارة التربية والتعليم لا تعني بالضرورة أنهما دون غيرهما لا يؤديان ما يلزم عليهما أداؤه وإنما أسوقهما على سبيل المثال لحساسية دورهما وأهميته لكل فرد في المجتمع ولا يمكن لي أن أنكر أن هنالك تطورا ملموسا في القطاعين، ولكن الذي أتحدث عنه هو وضع مقاييس معيارية يمكن لنا من خلالها قياس الأداء لهما ولغيرهما من القطاعات، ولهذا أقترح أن يتم تطوير وتفعيل دور وزارة الاقتصاد والتخطيط بحيث تساند الوزارات في وضع خططها التنفيذية والتفصيلية ووضع معايير ومقاييس الأداء، ونشر هذه الخطط بأرقامها وتفاصيلها على موقعها وموقع الجهات المعنية بحيث يمكن للجميع الاطلاع عليها ومقارنة ما يتم على أرض الواقع بالخطة التنفيذية السنوية المعتمدة، وأقترح أيضاً أن يتجاوز دور ديوان المراقبة العامة ما يقوم به الآن من التدقيق اللاحق لما تم من الناحية الإجرائية والشكلية إلى التدقيق والمراجعة والمحاسبة على فارق الإنجاز بين ما تم وبين الخطة المعتمدة.

لا يمكن لأي مواطن مهما كانت ميوله وأهواؤه إلا أن يقر بكرم الله سبحانه وتعالى علينا بهذه الموارد غير المسبوقة بحيث نرى في ميزانيتنا فائضاً بنسبة ضخمة بينما تعاني الدول من حولنا أزمات الديون ومخاطر الإفلاس، ومن باب أن كل ذي نعمة محسود فإننا نسمع كل يوم ادعاءات من هنا ومن هناك يحاول أهل الأهواء بثها وترويجها مستغلين قصور أداء بعض الجهات الخدمية وعدم توفر المقاييس المعيارية الصحيحة التي تمكننا من تفنيد ادعاءاتهم وبيان حقيقة التطور الحاصل أو مستوى القصور إن وجد، وهو ما يدفعني إلى أن أدعو لوضع هذه المقاييس وطرحها لنا بكل شفافية لتجيب بشكل تلقائي على كل مدعي ولكي نشكر من يستحق الشكر ونطالب بمحاسبة من يستحق المحاسبة لتقصيره بشكل موضوعي.