في صمت العشيات وهي تمتص مناديل المطر، وترتق ثوب الغدير النائم وتفتح ذراعيها للريح التي تدمي أضلاع سنبلة عذراء، يرتجف صوت عند أطراف الفجر كحرير النعاس، يسأل الطرق المقفرة أين صاحبي الفلاح؟ وهو يتأبط ما تناثر من أحلامي ليضمخ بها مسامات عروقي، ويخلع عن وجهي يباس الكهولة وأشباح الغرباء. في سكون الشتاء تتناثر تأوهات مكلومة لجدار طيني، خلت عرصاته من صخب الحياة وصبوات ساكنيه، فأذعن رأسه الأملس وجسده المذعور وذاكرته المثقلة بالعذاب الوارف والوجع العصي، تنهشه العزلة المريرة والانكسار المبهم، وهو يجيل بصره فوق عتبات الروح وذوائب السقوف والسلالم المحمومة، كانوا هنا.. تتسرب أحلامهم كالماء وتكتظ حدقاتهم بالمباهج، وتتضمخ نفوسهم بالأغاريد.. يرشون الطرقات بالتماعاتهم، ويفيضون على رؤوس الحصون بالصحو والإشراق، ويركضون على أديم التراب ليمسكوا بالزمن الهارب.

في سفوح الجبال تبزغ شبّابة منهكة بلا شفتين، غادرت حقل" اليراع " بعد أن ملأ شدوها نوافذ الحقول ومراسيم الحصاد واشتعال العابرين، كان الراعي يدغدغها بأصابعه المستطابة فترسل هديلها العذب وموالها الشفيف، فتشهق حوله القطعان المشتهاة ويغتسل العشب الطفولي تحت الصخور.. إنها تساكنه بنغماتها ليهرب من وحشته المحتملة. في الأمسيات البهية تتجرع مواقد الليل طمي الحداد، ورماد المجامر ومتاهات النوح الدامي، فقد كانوا يتحلقون حولها كالغيوم ليفيضوا حول " الصلل " بالحكايات المنسربة كالينابيع، وليحتشدوا كمساقط الضوء، وكبيرهم يفتق أغطية " السواليف والردودة " في براعة مدهشة واستدعاء منهمر، فمخزونه مفعم بالذخيرة الحية من غوامض القرية ودفء الأساطير ومواريث الآباء الراحلين.. وها هي تذبل تلك الحكايات لتموت على محاجرها الدموع. في غبش الفجر الأخير تتعرى ساقية الماء وقد هجرتها طيور الحقل، وانتصبت فوق أديمها صبارة حبلى بالمرارة كالحة الوجه من فرط عناقها للطحالب وتجاعيد العطش، كانت لا تكف عن النشوة المغناة فترسل بوحها في الفضاء المفتوح قبل الشروق وتوقظ العصافير ليعبث أطفالها بعذوق الذرة المورقة وحوض الماء الناعم.. واليوم تنحني تحت أثواب الغبار وتصدعات الضجر والحيرة والقحط والموت القاسي. في ليالي القيظ المترعة بالأفراح والمحبة كانوا يشعلون سراج " الطروق " المورقات بالعشق الأخضر ومعاطف السمر البهي، ويغمرون القرية بعطر السرائر ووسائد الأحلام الوثيرة، يمسدون الأرض بأقدامهم، ويقاسمونها لذة العيش وميعة العمر وأزاهير القلب الطروب، واليوم تنعس في ساحاتها حمى الغياب وضيم الكآبة وداء الجفاف والغربة، وينشب الحزن أظفاره في حلقها المتعب، فتحاول أن تخيط ما تمزق من قلائد قميصها وما استباحت المدينة الظالمة من حطام بهائها وعرش أناقتها وفردوس ضحكاتها، وكلهم يسألون: هل نبذتنا الحياة؟