مضت حوالي سنة ونصف السنة على بداية الأزمة السورية ولا تزال أفق الحل مسدودة على المدى المنظور، رغم آلاف الضحايا والجرحى وعشرات آلاف المفقودين. فما بدأ حراكاً سلمياً كان كثير يأملون أن ينتهي في غضون أيام أو أسابيع على الأكثر تحول إلى صراع دموي شرس بين سُلطة ترفض أي حل يؤدي إلى تخليها عن السُلطة بشكل سلمي وديموقراطي وبين معارضات منقسمة على نفسها تبنت في مجملها طريق الكفاح المسلَّح بعد أن فشل الحراك السلمي في تحقيق أي نتائج ملموسة على الأرض. ووسط كل هذا يدفع الشعب السوري ثمن هذا الصراع الوحشي من دمه وأمنه ولقمة عيشه. قال تقرير نشرته "مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي" في أغسطس الحالي إن التوقّعات بالنسبة إلى سورية تبدو قاتمة في ظل تصاعد حدَّة الصراع في دمشق وحلب وأجزاء أخرى من البلاد. إذ تسلّط استقالة المبعوث المشترك للأمم المتحدة والجامعة العربية، كوفي عنان، الضوء على صعوبة المشاركة الدولية الفاعلة، في حين يؤكّد انشقاق رئيس الوزراء السوري رياض حجاب مؤخّراً على تقلّص الخيارات السياسية أمام نظام الرئيس بشار الأسد. ويضيف التقرير أنه على الرغم من المشاكل التي تواجهها الجهود الدبلوماسية، يتعيّن على المجتمع الدولي مواصلة الضغط على روسيا للمساعدة في ترتيب صيغة قابلة للتطبيق لتقاسم السُلطة كجزء من عملية انتقال سورية بمعزل عن الأسد.

هل سورية الآن في حالة حرب أهلية؟

هناك هيئات مرموقة عدة تقول إنها كذلك. في 15 يوليو أعلن الناطق باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن سورية الآن تعتبر في حالة "نزاع غير دولي مسلّح". وبالنسبة إلى مساعد الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون عمليات حفظ السلام هيرفي لادسو، فإن سورية بالفعل في حالة حرب أهلية منذ أكثر من شهر، لأن "الحكومة السورية خسرت أجزاء كبيرة من الأراضي وكثير من المدن إلى المعارضة وتريد استعادة السيطرة عليها".

ما مدى سيطرة نظام الأسد على الوضع؟

بعد انشقاق رئيس الوزراء رياض حجاب، تراجع ادّعاء نظام الأسد حول امتلاك الشرعية السياسية بصورة سيئة للغاية. وهذا يمكن أن يؤدّي إلى "نقطة اللاعودة" التي تنشقّ فيها قطاعات كبيرة من السكان المدنيين والمسؤولين الحكوميين وموظفي الخدمة المدنية والقوات المسلحة في نهاية المطاف بشكل علني. لكن، وإلى أن يحدث ذلك، النظام وحده هو الذي يملك القدرة على حشد جهد عسكري كامل من خلال الاستفادة من شرائح من السكان والهيئات الحكومية والموارد الاقتصادية التي تخضع إلى سيطرته.

لا يزال النظام بلا منافس إلى حدّ كبير في مناطق عدة من البلاد، بما فيها المنطقة الشمالية الساحلية ومحافظة السويداء في الجنوب. ولا تزال له أيضاً اليد الطولى في دمشق وفي كثير من المناطق الشرقية والشمالية الشرقية. وقد أعادت القوات الحكومية تأكيد سيطرتها في هذه المناطق في الوقت الحالي (كما حدث في دير الزور)، أو تخلّت عن عمد عن السيطرة على المدن والبلدات التي يسكنها الأكراد (بما في ذلك القامشلي لحزب الاتحاد الديموقراطي من دون إطلاق رصاصة واحدة). وعلى الرغم من أن حزب الاتحاد الديموقراطي هو أكبر قوة كردية معارضة، فإنه لم ينقل المعركة إلى نظام الأسد، وقد سمح للقوات الموالية للحكومة في المنطقة بالبقاء في ثكناتها.

في المقابل، لا تزال الحركات المتمرّدة المختلفة، التي تعمل تحت لواء الجيش السوري الحُر، غير قادرة على ممارسة سيطرة فعّالة ومستمرّة على المناطق التي تتحكّم بها. ثمّة بعض الاستثناءات القليلة مثل الرستن التي قاومت كل الهجمات الحكومية على مدى شهور.

إذا ما أسفرت معركة حلب عن انتصار النظام ستحاول الحكومة الاستفادة من ذلك عبر القيام بعمليات تمشيط في البلدات والمناطق الريفية المحيطة باتجاه الحدود التركية، حيث تحاول استعادة السيطرة هناك.

لكن الصورة قد تتغيّر. فالنظام لم يعُد قادراً على تأمين الهدوء الكامل في أي منطقة استعادها. قد تأتي مرحلة تصبح فيها محاولة النظام قمع المعارضة والحفاظ على سيطرته على جميع المراكز السكانية الرئيسة فوق طاقته، بحيث تبدأ قوته العسكرية وأجهزته الأمنية بالتفكّك. بيد أن قدرة النظام على حشد ما يقدّر بنحو 20 ألف جندي لمعركة حلب توحي بأنه لم يصل بعد إلى هذه المرحلة.

ما مدى أهمية هجوم 18 يوليو على مسؤولين أمنيين سوريين كبار؟

يعتقد المحلّلون المخضرمون أن الجماعات المتمرّدة مثل الجيش السوري الحُر تفتقر إلى الحنكة العملياتية لتنفيذ مثل هذا الهجوم، وأن جهاز استخبارات أجنبياً كان له دور رئيس في الهجوم. لكن بغض النظر عمّن خطط ونفّذ عملية الاغتيال فعلياً، فهي أظهرت أنه قد تم اختراق النظام وأن الدائرة الداخلية فيه عُرضة إلى الخطر. ويفسِّر جرس الإنذار القاسي جداً الرد العسكري السريع والعنيف على التحدي الذي يمثله المتمردون المسلّحون في أحياء عدة من دمشق، والتقارير عن إعدام المعارضين المشتبه فيهم. وقد تمثّل أهم تأثير لعملية الاغتيال في أنها جعلت النظام يبدو ضعيفاً.

عززت عملية الاغتيال تأثير انشقاق العميد مناف طلاس، إذ أعقبه مزيد من الانشقاقات، بما فيها انشقاق دبلوماسيين وضباط جيش كبار، ومسؤول أمني واحد على الأقل متّهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان.

هل هذه هي النهاية بالنسبة لنظام الأسد؟

لا يمكن للنظام أن يبقى إلى أجل غير مسمى. لكن ما يعنيه هذا حقاً هو أن بشار الأسد لا يمكن أن يبقى في الرئاسة. قد يصبح أفراد آخرون في النظام كجزء من صيغة لتقاسم السُلطة. ثمّة خطط عديدة قيد المناقشة حالياً في روسيا وتركيا، وحتى في مصر، بتأييد ضمني على الأقل من الولايات المتحدة وبعض الدول الأعضاء في الجامعة العربية. لكن الأوضاع على الأرض ليست ناضجة بعد لإنجاح أي من هذه الجهود.

من المرجَّح أكثر أن تتناوب فترات من العنف الشديد مع فترات من الهدوء في الأعمال القتالية، يتم خلالها إطلاق عمليات جس نبض دبلوماسية جديدة ومراجعة مقترحات لإجراء عملية انتقالية عن طريق المفاوضات. يبدو الرئيس الأسد غير مستعدّ لتقبّل أي تسوية ذات مغزى، فهو لا يزال يملك ما يكفي من الموارد والسُلطة لمواصلة القتال. إلى جانب ذلك، يحتفظ النظام بالتفوّق العسكري والتنظيمي، ويمكنه البقاء على الأرجح في شكله الحالي حتى نهاية عام 2012.

هل سيؤدّي تصاعد العنف إلى كسر الجمود السياسي والعسكري؟

ليس بعد. فقد شهد شهر يوليو سلسلة من الأحداث البارزة والمؤثّرة: تفجير "خلية إدارة الأزمة" التابعة للنظام، وما يسمّى بركان دمشق الذي أطلقه المتمردون المسلحون، وهجوم الثوار في مدينة حلب. كانت هذه تطوّرات مهمة أكدت على فشل "الحل الأمني" الذي تبنّاه النظام.

لكن تلك الأحداث ولّدت أيضاً توقّعات مفرطة في التفاؤل بأن سقوط النظام بات وشيكا. تطلّب الأمر عدداً قليلاً نسبياً من الثوار المسلّحين بأسلحة خفيفة لإعطاء الانطباع، لمدة أسبوع تقريباً، بأن النظام قد فقد السيطرة على أجزاء كبيرة من العاصمة. وسارع قادة الثوار في الشمال إلى الاستفادة من هذا وأرسلوا وحداتهم إلى حلب، مما يمثّل تحدّياً أكثر خطورة للنظام.

مع ذلك، قد تثبت هذه الخطوة أنها خطأ باهظ الثمن. صحيح أن الثوار أفقدوا عدوّهم توازنه، لكن بدلاً من أن ينسحبوا للحفاظ على قوتهم وإضعاف القوات الحكومية المتفوّقة بصورة تدريجية من خلال المناورات المتكررة، انخرطوا كلياً في المعركة.

كيف ستؤثّر الأزمة على الدول المجاورة لسورية؟

يحاول النظام السوري التأثير على سلوك بعض جيرانه، من خلال الإشارة إلى قدرته على رفع التكاليف بالنسبة إليهم إذا لم يغيروا نهجهم في التعامل مع الأزمة. في الواقع، تمثّل التطمينات الرسمية بأن سورية سوف تستخدم أسلحتها الكيميائية "للدفاع ضد العدوان الخارجي فقط" محاولة لإثارة المخاوف الإسرائيلية من أن الترسانة السورية قد تقع في أيدي الأشخاص الخطأ. وهذا بدوره يدفع إسرائيل لثني الولايات المتحدة عن السعي لتغيير النظام. وبالمثل، فقد سمح نظام الأسد لحزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المتشدّد بالسيطرة، بحُكم الأمر الواقع، على المناطق المتاخمة لتركيا.

لقد هدّدت تركيا بمهاجمة هذه القواعد الكردية في سورية، لكنها ليست متحمسة للتورط في الصراع الدائر بشكل مباشر. فهي تخشى من أن تتشكل منطقة للحُكم الذاتي الكردي في شمال سورية. وما من شك في أن هذا القلق ازداد في أعقاب إنشاء المجلس الكردي الأعلى بين مجلس شعب غربي كردستان الذي يدعمه حزب العمال الكردستاني – الذي يُعدّ حزب الاتحاد الديموقراطي عضواً فيه أيضاً- والمجلس الوطني الكردي في سورية.

يتزايد الضغط أيضاً على الدول المجاورة الأخرى. فقد حال المعسكران المتنافسان المؤيد والمناهض للأسد في لبنان حتى الآن دون تفجُّر التوترات وتحولها إلى حرب أهلية واسعة النطاق. ومع ذلك، من الواضح أن المقصود من إطلاق النيران السورية عبر الحدود هو إرغام السلطات اللبنانية على الحد من تدفق المقاتلين والأسلحة إلى داخل البلاد.

تظهر المتاعب أيضاً على طول حدود سورية مع العراق، حيث تتعرّض جهود زعماء القبائل المحلّية للبقاء على الحياد للتآكل، فيما ينضم شبان العشائر إلى الجيش السوري الحُر ويقيم الجهاديون المقبلون من العراق مناطق تجمُّع هناك. وتتزايد حدة التوتر بين القبائل العربية السُنّية في محافظات العراق الغربية وحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي التي لا تزال تدعم نظام الأسد. لكن لا يبدو أن أياً من الجهات العراقية الفاعلة الرئيسة، بما فيها حكومة إقليم كردستان، مستعدة لإسقاط التوازن المضطرب بين هذه الجهات المحلّية المتنافسة.

ويتعرَّض الأردن إلى قدر أقل من التهديد من العراق أو لبنان، لكنه يتحمَّل عبء وجود 142.000 لاجئ سوري لديه ويستعد لوصول مزيد. وتشعر عَمّان بقلق متزايد من أن عملاء سريين سوريين قد تسللوا إلى المملكة الأردنية بهدف زعزعة الأمن والتأثير في السياسة الأردنية تجاه النظام في دمشق.

ما الذي يتعيَّن على المجتمع الدولي فعله الآن؟ وهل تعرقل روسيا والصين جهوده؟

يملك المجتمع الدولي وسائل محدودة للتوصّل إلى حل سلمي للأزمة السورية، طالما أنه غير مستعد للتدخّل عسكرياً. ومن ثم، يمكن أن يؤدي التدخل في الواقع إلى اندلاع أعمال عنف أسوأ أو لا يمكن السيطرة عليها، مثل عمليات قتل انتقامية واسعة النطاق أو "تطهير"، ما لم يتم نشر مستويات كافية من القوات الأجنبية.

تُشكِّل الصين وحدها في الحقيقة عقبة دبلوماسية أمام التدخّل الدولي، حيث إنها ليست مصدراً رئيساً للمساعدة العسكرية والاقتصادية أو المالية لسورية. لكن روسيا أكثر أهمية بكثير نظراً إلى علاقاتها الطويلة مع الجيش السوري، ودورها في التخفيف من أزمة النظام المالية، والتزامها العسكري العلني في الدفاع عن سورية. هذا هو السبب في أن "أصدقاء سورية" يعتمدون على إقناع روسيا بإنجاز عملية انتقال موجّهة هم أنفسهم غير قادرين على ضمانها. ومع ذلك، فإن من الواضح أن التأثير والنفوذ الروسيين ليسا كافيين لتغيير سياسة الأسد عندما يتعلق الأمر ببقائه في السُلطة.

ولا يبدي "أصدقاء سورية" استعداداً لإشراك إيران في حلّ الأزمة، رغم أنها طرف خارجي فاعل ويمكنها ممارسة تأثير حاسم. وفي ظل غياب أي دور إيراني، فإن لجوء "أصدقاء سورية" المتكرّر إلى مجلس الأمن لن يضع حدّاً للعنف في سورية. ومع ذلك، فإن هذا يبقي على الضغط على روسيا ويحفّز موسكو على المساعدة في ترتيب صيغة قابلة للتطبيق لتقاسم السُلطة، بمجرد أن تشعر بأن الدفاع عن الأسد يُشكِّل خطراً أكبر على نظامه من المساعدة في إزاحته بشكل فعّال.