في الوقت الذي كانت فيه الأنظمة السابقة في مصر وتونس تتهاوى أمام صيحات المعترضين (دعك من النتائج التي حدثت بعد ذلك) كان نوري المالكي في العراق يوسع من دوائر استبداده وبطشه ليس فقط في السجون والمعتقلات والزنازين التي يدرك العالم كله حجم الفظاعة التي تحويها بل وصل إلى تصفية مختلف القوى السياسية والتيارات التي يمكن أن تختلف معه في العراق، وبلا مبالغة كان المنطق الطائفي البغيض وفي أسوأ صوره هو الذي يدفع بالمالكي قدما حتى أصبح في فترة وجيزة طاغية حقيقيا، وطائفيا تحولت العراق معه إلى مستعمرة إيرانية.

ما يحدث اليوم في الأنبار وفي غيرها من المحافظات العراقية ليس أول حراك شعبي في العراق، بل شهد عام 2011 ومع اندلاع الثورات في مصر واليمن، حراكا في الشارع العراقي وصل إلى بغداد، وخرج الشباب إلى الشارع، لكن تسارع الأحداث في بلدان عربية غطى على ذلك الحراك، في الوقت الذي استخدم فيه نوري المالكي أعتى أنواع البطش واستطاع أن يقتلع تلك الاحتجاجات. ولدى المالكي كل الأدوات التي تعينه على القضاء على أي خصوم جدد، لا على مستوى الدعم الإيراني ولا على مستوى القوات والأذرع الأمنية الخاصة التي باتت تثير الرعب في صفوف العراقيين.

أعوام من الاحتلال الأميركي للعراق لم تسفر إلا عن هذا الواقع الكئيب؛ نظام طائفي مستبد، وظالم وقمعي، فلم يكن المالكي سوى نسخة أخرى من صدام حسين، ويبدو أن الحكومات التالية لكل نظام مستبد لا تجد أمامها مثالا يحتذى به، إلا الأنظمة التي انقلبت أو ثارت عليها، ولذلك جاء المالكي بذات النفس الطائفي والقمعي، ولم يكن يتردد لحظة واحدة في استثمار ما تحت يده من سلطة ومن قوة للبطش بخصومه. حتى وصل إلى المرحلة التي يمكن القول فيها إن أنصار المالكي وحزبه باتوا من خارج العراق، بينما بات العراق في أغلبه خصما لهذا المستبد.

لا يحتاج الاستبداد الطائفي إلى البقاء مدة طويلة في الحكم، كما هو الحال في الاستبداد العسكري، لأنه ينطلق من خصومة قائمة وجاهزة أصلا، وليست بحاجة سوى لإعادة توجيهها، وهنا يكمن الفرق بين المالكي وبين غيره من المستبدين الذين أطاحت الثورات والاحتجاجات بأنظمتهم.

إضافة إلى الخسارة الكبرى في الشارع العراقي خسر نوري المالكي كل الشارع العربي حينما ظهر مناصرا لنظام بشار الأسد، وتحول في نظر الشارع العربي إلى حليف للظالم والقاتل، فاستحق أن يقف خلفه في طابور الاستعداد للسقوط، على الأقل لدى بشار الأسد أكثر من ثلاثين عاما من حكم والده تمثل تاريخا يحمل كثيرا من التحالفات الداخلية وعصبة من المقربين والمنتفعين الذين اتسعت دائرتهم عبر تلك السنوات بخلاف نوري المالكي، الذي باتت الدائرة المحيطة به ضيقة جدا.

بالفعل فالكثير من المظاهرات التي تخرج في بعض المحافظات العراقية يخرج فيها مسؤولون سياسيون التجؤوا في الفترة الماضية لعصبياتهم وعشائرهم لتحميهم من بطش المالكي وقمعيته وها هم يستعدون الآن جميعا للوقوف في وجهه والمناداة بإسقاط نظامه.

في الغالب لن يستسلم المالكي بسهولة، وها هو يدعو إلى الحوار من أجل كسب الوقت، ظهوره الأخير في المؤتمرات الصحفية تغلب عليه اللغة التوافقية والبحث عن حل للأزمة، يبدو مرتبكا وقلقا للغاية، هذا أمر طبيعي جدا فالمالكي وحده يدرك كم صنع من الخصوم، ويدرك أنه لم يصنع له عصبة سياسية تحيط به وليس لديه سوى العصبة الطائفية التي يقع أغلبها في إيران.

لكن نداءات التهدئة والدعوة إلى الحوار لن تجد آذانا صاغية وسيلجأ المالكي لحيلته القديمة وهي العمليات الانتحارية التي طالما بطش بالعراقيين تحت طائلتها، وهي أيضا لن تجدي نفعا، تتمثل المخاوف إذن في تحول الصراع من سلمي إلى مسلح، على خطى الثورة السورية، مع الأخذ في الاعتبار أن العراق مهيأ لذلك أكثر من سورية والقدرة على التسلح في العراق أيضا أكثر.

لكن المحصلة أن واقعا عراقيا يجب أن يتغير وقد بدأت تباشيره تلوح في الأفق، فالعراق الـذي سـلمه الأمريكان لإيران، سوف يعـيده العراقيون للعراق.