نحن كمثقفين ومتحاورين ومواطنين نتحاور ونتجادل ونختلف ونتفق وتكون لنا رؤى مختلفة وآراء متباينة ووجهات نظر متنوعة.. كل ذلك وارد، بل مطلوب، لإنه عادة ما يظهر الرأي الحصيف المناسب من اختلاف وجهات النظر من خلال العصف الذهني المصاحب للنقاش الذي عادة ما يقف كل فرد على منظور خاص به ويقدم رأياً مختلفاً وتجتمع في النهاية النقاط الإيجابية من كل رأي، ليتم الخروج برأي قوي شامل يمثل وجهات النظر مجتمعةً وكل الجهات المتحاورة.. هذا هو المطلوب.. وإذا كان ذلك مطلوبا في الأحوال العادية فإنه مطلوب بشكل أكثر إلحاحاً في هذه الأوقات التي يمر بها العالم بظروف حساسة جداً تتطلب الحكمة و"الدبرة" في كل ما نختلف فيه ومن أجله، وكيف نختلف، وذلك للحفاظ على وطننا ومكتسابتنا وأنفسنا. وأرى أنه إذا تعدى الأمر ذلك يجب أن يوقف عند حده من يشكل خطراً على وحدتنا ولحمتنا وأمننا، ليس من قِبل الدولة فقط، لكن أيضاً من قبل المجتمع بكل فئاته ولكائنٍ من كان..

نعم لدينا مشكلات ونعاني من سلبيات، ونواجه صعوبات.. كل ذلك موجود، لكن كيف نتعامل مع كل ذلك؟ هذا هو السؤال.. ظاهرة غريبة وعجيبة وخطيرة في نفس الوقت.. يجتمع مواطنون في مجلس، تجمع بينهم المواطنة، تقلهم أرض واحدة وتظلهم سماء واحدة، يشتركون في عامل مهم ومقدس: المواطنة، لكنك ترى جزءا في أقصى اليمين وآخر في أقصى الشمال.. يتحاورون، والحوار أمر مطلوب وهو من توجهات وسياسات بلادنا التي تكرسها، لكن الخطورة في الأمر أن الحوار بين المتناقشين لا يضع أبعاد وخطورة الفجوة بين المتناقشين على الوطن وأمنه في عين الاعتبار، بل ينظر إلى الانتصار وكسب جولات المناقشة والحوار بصرف النظر عن أي ثمن. هذا ما يسمى اختلاف التضاد. وهذا ما يضعف أبناء الوطن والوطن نفسه. الاختلاف مطلوب لكنه اختلاف على الآليات المؤدية لأهداف، وليس اختلافاً على الأهداف ذاتها. اختلاف على الآليات، اختلاف تنوع، وهو يثير الحوار ويثري النقاش ويخرج منه المتحاورون بأفكار جديدة بناءة، لكن اختلاف التضاد إذا اتسعت شقته كان شرا ووبالاً على الوطن وأهله.

يجب أن ندرك، مهما اختلفت رؤيتنا أو فكرنا أو مذهبنا، أن أمننا وأمن وطننا أمر مقدس ويجب عدم التلاعب به أو فيه. إن الادعاء بامتلاك الصواب واحتكار الحقيقة فيه مغالاة وأمر غير مرغوب.

إن وقوف أبناء الوطن الواحد في صفين متقابلين ومتضادين أمر ليس فيه مصلحة لأحد. وتقسيم أبناء الوطن الواحد وتصنيفهم ثم التعامل معهم على أساس هذا التصنيف لا يخدم أحدا، وهو أمر خطير على المدى البعيد. اقرؤوا التاريخ، القريب منه والبعيد، لتعرفوا سبب ضعف الدول وأسباب انقساماتها وتفتتها. اقرؤوا التاريخ لتعرفوا العامل الأساسي للتخلف وكيف تُخترق الأمم. إننا كمواطنين ومثقفين وعلماء يفترض أن ندرك بوعي كامل أن الأمر لا يقف عند إقصاء فرد أو جماعة.. إنها قضية تمس أمن وطننا ومستقبل بلادنا. من العيب أن نلتقي في مجلس واحد، موطنين لبلد عرف عبر تاريخه بالسماحة والمثل والمبادئ والقيم السامية وننعت بعضنا ونصنف بعضنا ونقصي بعضنا البعض. حتى مع وجود الأخطاء والتجاوزات والممارسات التي لا نقبلها يجب أن نضع مصلحة الوطن أمام كل مصلحة. نقف صفاً واحداً مهما اختلفنا، حفاظاً على أمتنا، وحفاظاً على وطننا. يفترض أن نعي أن ما بنيناه على مدى عمر بلادنا هو أمانة عندنا لأجيالنا القادمة. إن اختلاف التضاد بين أبناء الوطن الواحد أمر غير مقبول لكل عاقل، وإن تكريسه أمر خطير ليس في مصلحة أحد. وإن التقاءنا على المواطنة أمر لم يعد ترفاً في هذا العصر. إن من يحضر بعض الحوارات في مجالسنا يصاب بالفزع بين الخلاف، وليس الاختلاف بين المتحاورين وكأننا من كواكب مختلفة. والأمر الذي يزيد حيرة أن هذا يتم بين طبقة المثقفين الواعية، الذين يفترض أن يكونوا على درجة كبيرة من الوعي بأن هذا الخلاف لا يصب في مصلحة أحد، ومن أولهم المتحاورون أنفسهم. لنكرس ثقافة اختلاف التنوع الذي يحقق لنا الاتفاق على الأهداف التي تحفظ أمتنا وتضمن تقدم بلادنا، وننبذ ثقافة اختلاف التضاد التي توسع الشقة وتفرق اللحمة، فنحن وبلادنا لا نستحق هذا ولا نستحق ما سيؤدي إليه، لا سمح الله.

تسمع في بعض الحوارات أحكاما مسبقة.. وترى في بعض الحوارات تحزبات لفريق ضد آخر، وتخشى ألا يقتصر هذا على جماعتين التقتا في منتدى أو ضمهما مجلس. الخشية أن يكون هذا مؤشراً لانقسام في المجتمع نفسه. إن الاستمرار في هذه النقاشات ومحاولة كل فريق التأليب بشتى الطرق على الفريق الآخر أمر ليس سهلا، وأكاد أقول إنه أمر خطير. الاختلاف حول قضية محددة سهل.. والاختلاف حول قرار محدد سهل.. والاختلاف حول إقرار مشروع بشكل أو بآخر سهل. الذي ليس سهلاً أن نختلف في الفكر، وأن ينقسم المجتمع على هذا الأساس. نحن في هذه البلاد نتمتع على مر تاريخ بلادنا بمسرح مجتمعي متآلف متحاب متآخٍ على اختلاف رؤانا ومشاربنا. كيف تم اختراقنا على هذا النحو المؤذي؟ كيف تم اختراق مفكرينا ومثقفينا إلى درجة التضاد؟ كيف يتحدث مواطن عن مواطن آخر بلهجة ولغة غير متسامحة (حتى لا أقول لغة عداء)؟ لنختلف، هذا أمر مشروع، لكن نتضاد؟ هذا أمر يجب أن يعيد مفكرونا ومثقفونا الأمر فيه. يجب ألا نضطر للحاجة لقوة النظام حتى تمنع العواقب الوخيمة لهذا النوع من الخلاف، ونعود إلى قوة الحكمة والصواب وتغليب مصلحة الوطن لتمنع التضاد المسيطر على حواراتنا.

وخلاصة القول أن هناك من الفئات من يجهل أن الفوضى يمكن أن تعم نتيجة قيامنا كمواطنين بتبني اختلاف التضاد.. ونؤثر بآرائنا على من يجهل نتيجة هذا التوجه، ولهذا يجب أن نعي تماماً أن ديننا ووطنا ولحمتنا ومكتسباتنا أمانة عندنا، وأنه يجب ألا ننهج نهجاً تكون نتيجته أن تعم الفوضى ويفقد الأمن.. ويجب أن نكون من الحصافة ما يجعلنا ننتقد بحكمة ونختلف بتعقل ونتحاور بود، ففي ذلك خير لنا جميعاً..

أيها المتحاورون

أيها المثقفون

أيها المختلفون

أرجوكم لا تعبثوا بأمن الوطن.