لم أكد أنتهي من تذوق قطع الدجاج الذائبة في طبق "المضروبة" اللذيذ، حتى أتبعته بقليل من "الثريد" القطري الرائع، ثم أنهيت حفلة الأكل هذه بقطعٍ صغيرة من "البثيث"، وهي خليط من الطحين والتمر والزبدة.
كنت قد وصلت على طائرة الخطوط الجوية القطرية إلى الدوحة، في طريقي إلى "الرياض"، ورغم أن مدة التوقف تتجاوز ست ساعات بين رحلة الوصول ورحلة المغادرة، إلا أنني فضلت استخدام الخطوط القطرية على خطوطنا الوطنية لسببين؛ أولهما أن خطوطنا العريقة لا تصل إلى وجهتي البعيدة رغم كل إمكاناتها الضخمة والدعم الحكومي، والثاني وهو الأهم؛ أن تجاربي الشخصية في الرحلات الدولية مع خطوطنا السعودية لا تحمل سوى التأخير وضياع الأمتعة وسوء التعامل والإدارة.
كانت خطتي واضحة وبسيطة، وهي قضاء وقتٍ خاطف –لا يتجاوز أربع ساعات- في قلب الدوحة النابض، وهو بالمناسبة قلبها منذ عشرات السنين، لكن الفرق هو ما حصل خلال السنوات القليلة من اهتمام كبيرٍ جداً بوسط مدينة الدوحة، وهنا أقصد "سوق واقف"، والذي لم يكن سوى سوقٍ متعرج وسط المدينة، كان البدو الرحل والبائعة يصطفون على جانبيه، يقومون بعرض بضاعتهم، سواء القادمة من الأحساء السعودية، أو من جزيرة البحرين، أو حتى من ضفة الخليج الشرقية، وهناك كانت التوابل الهندية تختلط بكل أنواع البضائع والروائح، وكل أنواع الأكل، سواء الجاف منه، أو حتى الساخن المطبوخ! وتجاوز السوق دوره التجاري، ليتحول مع مرور الوقت إلى مكان للقاء والجلوس على قارعة الطريق، واحتساء "استكانة" شاي أو "كرك" قطري مميز، وبالطبع تبادل أطراف الحديث وأخبار المدينة.
لقد تنبهت هيئة سياحة قطر إلى أهمية هذا الشارع التاريخي، وأثره الكبير في جذب سياح دولة قطر، وربط أبنائها وبناتها بتاريخهم القريب، وتبنت مشروعًا رائداً لتطويره وإعادة بنائه، فكانت الخطوة الأولى تحديد أبعاد الشارع، والعمل على بناء وترميم ما تهدم منه، وتوسيع الشارع الرئيس، وشوارعه الفرعية، والعمل على ضرورة تركيز متاجر الشارع على المصنوعات اليدوية، والبضائع القديمة، والهدايا التذكارية القطرية، ودعم المطاعم الصغيرة التي تقدم أطباق المطبخ القطري المتنوع، مثل المطعم الذي اتجهت إليه مباشرة، وبمجرد أن دفعت ريالات قطرية قليلة؛ تمتعت بطعام قطري تقليدي رائع ولذيذ، وزاد من جمال السوق في تلك الليلة أن برنامجاً فولكلورياً قدم بشكل مباشر وتلقائي وسط السوق، وكان عبارة عن مسيرة هودجٍ نسائي متحرك، يمثل العرس القطري النسائي، الذي ازدان بصوت الفنانة الشعبية القطرية "فاطمة شداد" التي تقدمت المسيرة على ظهر جملٍ مزين كما العريس، وكانت الفرقة الفولكلورية تتحرك وسط رواد السوق وأطفالهم بكل سلاسة، وبمساعدة خفيفة من شرطة السوق، وهم – بالمناسبة - يرتدون زي شرطة "قطر" القديم، الذي كان يتكون من البنطلون والقميص، وكذلك الغترة البيضاء والعقال الأسود!
لقد عشت تجربة رائعة ومميزة وسط هذا السوق الفريد، والذي بدأت المرحلة الثانية من تطويره بافتتاح عددٍ من الفنادق الراقية على أطراف الشارع، ولكنها كلها صممت على الطراز التقليدي القطري، لذا فإن الزائر يستطيع من خلال سكنه بالقرب من سوق "واقف" وتجوله بين متاجر السوق، وكذلك المتحف الذي افتتح قبل فترة؛ أن يتعرف بشكل حقيقي ومبسط على تاريخ هذه الإمارة الشابة، وأن التقدم والتطور لا يعني بالضرورة القطيعة مع تاريخنا القديم.
لقد استطاعت هيئة سياحة "قطر" وبالتعاون مع بلدية "الدوحة" أن تجعل سوق "واقف" قبلة للسياح، ومكاناً لمتعة سكان المدينة، وأعتقد جازماً أن مدناً كثيرة بالمملكة من الممكن أن تحول وسطها الميت إلى مركزٍ سياحي مبهر، خصوصاً أن مدننا تتمتع بتنوع ثقافي واجتماعي رائع، يمكن الاستفادة منه بعدة أشكال متنوعة، ولعلي أتذكر هنا بمزيدٍ من الأسى سوق وسط مدينة الرياض، بالقرب من جامع الإمام تركي بن عبدالله، قبل سنوات طويلة والذي هُدم كاملاً لتقوم مكانه أسواقٌ خرسانية لا حياة فيها، أو سوق وسط "جدة"، والذي تحوّل مع مرور الوقت إلى مطاعم صغيرة ومتاجر فقيرة، وأليست تلك الأماكن هي قلب المدينة النابض، والتي تحتاج إلى إعادة النبض إليها مرة أخرى، لأنها هي الأساس، وهي ما يبحث عن ابن المدينة أولاً قبل السائح والزائر ثانياً، لذا فإنها دعوة للهيئة العامة للسياحة والآثار نحو العمل لإعادة تطوير هذه المناطق، بالتعاون مع بلديات المدن المختلفة، كما أن استلهام التجارب يصبح ضرورة للحفاظ على هويّة مركز المدينة وتاريخه، والأهم من ذلك ربط شبابنا وبناتنا بمدنهم، دون إغفال تنشيط الحركة الاقتصادية في مركز المدينة، كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي نجد فيه شباب الرياض مثلا، وقد أمست مطاعم أو مقاهي وسط مدينتهم هي مكان تجمعهم الأول.. تجدهم يحتسون كوباً من الشاي أو حتى القهوة وهم يشاهدون قصر "المصمك" أمامهم، وهم يقفون بالقرب من الجامع الكبير، أو حتى قصر "الحكم"، إنها أفكار بسيطة، ولكن نتائجها جداً كبيرة.. لأن مدننا تستحق ونحن نستحق أيضاً.