حين تتحول التنمية إلى مادة لصراع التيارات فنحن أمام أزمة، لكن حين يظل ذلك على مستوى الأفكار فقط، ولا يؤثر في التوجهات التنموية فهذا واقع وأمر طبيعي يمكن العثور على مثله في كثير من الثقافات، وبخاصة تلك التي تمر بتحولات ثقافية واجتماعية، لكن أن تتحول من اختلاف الأفكار إلى النزول إلى الميدان بعدد يتجاوز مئة فرد لتغيير ما يرونه منكرا فهذا يعني أننا لم نعد بصدد خلاف فكري، بل بتنا أمام مظاهرة احتسابية.
في الواقع السعودي، الأزمة لم تعد بين تيارين، ولكنها باتت بين خطابين ورؤيتين: رؤية تنموية ومدنية تقودها الدولة، ورؤية خائفة متوجسة ومستعدة للانقضاض على كل مشروع تنموي ترى فيه ما يخالف آراءها ومواقفها الفقهية.. وبالتالي تقف أمام كل من يسانده نظريا من الكتاب والإعلاميين وحتى من الفقهاء والمستنيرين، تحت طائلة اتهامات مثل التغريب والعلمنة والليبرالية، وغيرها من التهم التي باتت مجرد أدوات للمواجهة وتشويه الخصوم.
لقد اتضح لنا بعد كل تلك الصراعات بالنسبة لتيار الممانعة أنها ليست مجرد صراع أفكار أو صراع نظري، بل هو صراع على الواقع، فلم يعد معنيا بالرد على كاتب هنا أو إعلامي هناك، بل اتجه للمسؤول مباشرة لتغيير ذلك الواقع، وهو ما يعني أن الممانعة النظرية لدى بعض التيارات ليست سوى لحظة مؤقتة ينتقل بها لمحاولة تغيير الواقع على الأرض.
لم تكن الزيارة الأخيرة لمجموعة من المحتسبين لوزير العدل المهندس عادل فقيه هي الزيارة الأولى، سواء للوزير فقيه أو لغيره من الوزراء، والكثير من الوزراء والمسؤولين إنما يستقبلون المحتسبين، لا لأن نظاما ينص على ذلك، ولكن من باب التقدير والاحترام والتعامل معهم على أنهم كغيرهم من المواطنين لهم الحق في إبداء وجهة نظرهم والالتقاء بالمسؤولين.
زيارات الاحتساب باتت نوعا من التداخل غير المناسب مع سلطة الدولة ورأيها وحقوق مختلف المواطنين في اختيار ما يرونه صالحا لحياتهم في ظل الدولة والنظام، فلا يمكن لأحد أن يوقف عمل المرأة في محلات الملابس النسائية لأنه يرى في ذلك منكرا، لأن النظام هو المعني بتحديد المنكر والمخالفات وطريقة التعامل معها. ومهما كان الهدف ساميا أو نبيلا فالنظام هو الذي يهيئ المناخ الحافظ لكل ذلك، خاصة أن أنظمتنا السعودية إنما تنطلق وهي تأخذ في اعتبارها مختلف القيم الدينية والشرعية والاجتماعية.
كانت اللقطة المؤلمة في لقاء الوزير مع المحتسبين ما سمعناه من هجوم مخز ومقزز على الراحل الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله.. رجل الدولة والوزير الذي يعد مرحلة وشاهدا في التاريخ السعودي الحديث بما قدمه خلال مسيرته للوطن داخل الوطن أو خارجه.
لم يعد الاحتساب إذن مجرد موقف نظري، لقد بات عملا ميدانيا واضحا ومنظما وبأعداد تتجاوز ما يمكن قبوله واعتباره زيارة ولقاء لهذا المسؤول أو ذاك، ليصبح بالفعل أشبه بتجمع احتجاج على أمر هو في الواقع نوع من الخيارات التي على الدولة أن تسعى وأن تستمر في توفيرها للناس وأن تحفظ حقهم في الاختيار.
يبدو أن هذا الوضع ـ إذا ما استمرـ مرشح لمزيد من التصعيد، لسبب يسير جدا أنه سيسهم في شرعنة هذا النموذج الحاد وغير المنطقي للاحتساب، (الأدبيات الإسلامية في المناصحة تنص على السرية والتأدب والكلمة الطيبة والموعظة الحسنة)، وسيتحول إلى أداة من السهل استخدامها حتى لو كانت الذرائع والأهداف مختلفة، وسيقفز الحركيون على الفور للاستفادة من هذه النافذة التي ستمثل مدخلا أولا للتجمعات وإلصاق المنكر بهذا الوزير أو ذاك، وبهذه الوزارة أو تلك، تمهيدا لأسئلة أعلى لن تتوقف، وبالتالي فالاحتساب بهذه الطريقة ليس موجها لوزير أو مسؤول، إنه موجه للدولة، ويرمي بكل وضوح للقول إن هؤلاء المسؤولين الذين عينتهم الدولة هم رعاة المنكر ومن يجب الاحتساب عليهم. وهي فكرة خطيرة للغاية لا يمكن وقفها إلا بالتدخل قانونا ونظاما.
سأسمع على خلفيات هذا المقال كلاما عن استعداء الدولة، وأن هذا ليس من الفروسية وليس من أخلاق الاختلاف. وفي الواقع فإنني أبرز من يؤيد الاختلاف النظري. ومن حق كل من يعترض على قرارات وزير أو وزارة أن يكتب ويتحدث ويرسل ويناقش. وإذا ما كان الضرر يقع عليه شخصيا فلديه القنوات الملائمة للشكوى، لكن الأزمة تبدأ عند من يريد أن يكون شريكا في توجيه العامة وفي تحديد حركة المجتمع وحصر خياراته فيما يراه هو، لأن هذه وظيفة الدولة، قلتُ "الدولة".. وليس "المحتسبين".