لم يكمل زوربا تعليمه في مراحل عمره المتقدمة، كان بالكاد يفك الخط، لكنه كان يحمل صفات نادرة، ولديه فلسفة خاصة به تكونت عبر تجاربه الكثيرة وأسفاره المتعددة. ولهذا كان صديقه المثقف جداً يرى فيه إنساناً نادراً ذا حجج منطقية، ويشير إلى أنه لا يشبع من رؤية زوربا وحكاياته المليئة بالحياة.

لم يكن زوربا يزدري دور المثقف، لكنه كان صريحاً برأيه إزاء ضآلة دور المثقفين وتأثيرهم في حياة الناس البسطاء، إذ ثمة حلقة مفقودة، ولذلك كان يقول لصاحبه المثقف: "أنت تريد أن تنير الشعب، كما قلتَ، وأن تفتح عيونه!... دع الناس مطمئنين أيها الرئيس، لا تفتح أعينهم. إذا فتحت أعينهم فما الذي سيرون؟ بؤسهم! دعهم إذن مستمرين في أحلامهم... إلا إذا كان لديك، عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن. ألديك هذا العالم؟".

إن الرجل البدائي (زوربا) يقول شيئاً جديداً، ولذلك هو - كما يصفه صاحبه - قد رأى جميع الألوان، وانفتحت نفسه واتسع قلبه دون أن يفقد شجاعته البدائية، فجميع مشاكله المعقدة التي تبدو لنا بلا حل يحسمها هو بضربة واحدة بسيفه كمواطنه الإسكندر الأكبر.

إذا شعر زوربا بشعور ما فإنه يرقص. كان الرقص بالنسبة له تعبير لغوي عن إحساس ما. يصف صاحبه رقصته الشهيرة مؤكداً أنه يغرق في الرقص، يضرب بيديه ويقفز ويدور في الهواء ويسقط على ركبتيه المثنيتين، ثم يقفز من جديد مثني الساقين مثل المطاط، كأنه يريد أن يقهر قوانين الطبيعة ويطير.

وبعد أن هدأت روح زوربا بعد هذه الرقصة العنيفة فاجأه صاحبه: ما الذي جعلك ترقص؟ ليجيب: وما تريدني أن أفعل أيها الرئيس؟ كان الفرح يخنقني، وعليَّ أن أروِّح عن نفسي في كل مرة أكون فيها على وشك الاختناق، أرقص. وروى زوربا قصته المحزنة: ذات مرة، عندما مات صغيري ديمتراكيس، وقفت هكذا ورقصت أمام جثته وأخذ الأقارب والأصدقاء من حولي يصرخون: جُنَّ زوربا! لكنني لو لم أرقص في تلك اللحظة لجننت من الألم.

إن الرقص بالنسبة لزوربا غير مرتبط بالفقد والحزن، ولا بالنشوة والسعادة، إنه مرتبط بالروح فيما يبدو. يروي زوربا أنه حين كان في روسيا ربطته صداقة مع روسي، ولم يكن يعرف سوى سبع كلمات روسية: كلا، نعم، خبز، ماء، أحبك تعال، كم؟ وقد استطاع وصديقه الروسي أن يجتازا حاجز اللغة المحكية من خلال لغة الجسد، حيث يرقص أحدهما للآخر ما يريد قوله للآخر، ما لم يستطع الفم قوله تقوله الأقدام والأيدي والصرخات الوحشية.

يقول زوربا: "لقد سقط البشر سافلاً جداً، يا للعار! لقد جعلوا أجسادهم خرساء ولم يعودوا يتحدثون إلا بالفم. لكن ماذا تريد أن يقول الفم؟ ما الذي يمكنه أن يقوله؟ لو استطعت أن ترى كيف كان الروسي يصغي إليّ، من رأسه إلى قدميه، وكيف كان يفهم كل شيء! ووصفت له، وأنا أرقص، مصائبي، وأسفاري، وكم مرة تزوجت، والمهن التي تعلمتها: قالع حجارة، عامل مناجم، بائع متجول، فخّار، جندي غير نظامي، عازف سانتوري، بائع بزر اليقطين، حداد، قاطع طريق: وكيف أدخلوني السجن، وكيف هربت، وكيف جئت إلى روسيا".

يؤكد صاحبه أن زوربا لو عاش في عصور بدائية وخلاَّقة لكان رئيس قبيلة يتقدم القوم، أو لأصبح شاعراً مشهوراً يرتاد القصور فتعلَّق العالم بشفتيه الغليظتين، الخدم والسادة والنبلاء، أما في عصرنا الجاحد فهو يجول جائعاً حول البساتين المسوَّرة كذئب، ويسقطه الحظ السيئ إلى درجة يصبح فيها مهرجاً لكاتب رديء.

ولكن لو عاد زوربا إلى الحياة من جديد، وقرأ ما كتبه صاحبه عنه، لأدرك حقاً أن صاحبه لم يكن كاتباً رديئاً أبداً.. لقد أنصفه - في وقت لم ينصفه فيه أحد - عبر هذه الرواية الخالدة، إذ لم يجعل من (زوربا) رمزاً يونانياً فقط، بل رمزاً إنسانياً يرقص له العالم.