أعلنت الهيئة العامة للطيران المدني يوم الجمعة الماضي عن الشركتين الفائزتين برخصتي النقل الجوي الوطني في المملكة العربية السعودية، وهما شركتا "طيران الخليج وشركائهم" و"الخطوط الجوية القطرية" لتقديمهما أفضل العطاءات المتنافسة، وذلك بعد منافسة مع أربع عشرة شركة طيران أخرى على ثلاث مراحل.
سوق النقل الجوي في المملكة بحاجة لضخ دماء جديدة بفكر مختلف بحيث ترتفع روح المنافسة بما يدفع ناقلنا الوطني للتحرك نحو الأفضل، وهذا ما يدفعني للحماس لفتح باب التراخيص الجوية للناقلات الوطنية، ولكن هذا الحماس الداخلي لدي لم يستوعب حتى الآن فكرة منح رخص ناقل جوي "وطني" لشركات غير سعودية. إن عدم استيعابي لهذه الخطوة يأتي في ظل أنظمة ولوائح الطيران المدني الحالية ومعاهداته الدولية، ويأتي في ظل بعض الممارسات السائدة لدينا في قطاع النقل الجوي التي أدت إلى إضعافه خلال الفترة الماضية.
النقل الداخلي هو جزء من سيادة الدول على أراضيها، ولهذا احترمته جميع المعاهدات الدولية في مجال النقل الجوي، إذ حصرت تلك المعاهدات ذاتها فيما يتعلق بالنقل الدولي، بينما تركت للدول ذاتها أن تتبنى سياساتها الخاصة داخليا، ولهذا نجد تباينا كبيرا في معايير وقوانين النقل الجوي بين تلك المتعلقة بالنقل الداخلي وبين الأخرى المتعلقة بالنقل الجوي الدولي، وقد اتخذت المملكة خطوة جريئة وموفقة بتبني معايير النقل الجوي الدولي داخليا بحيث ألغت هذا التباين قدر الإمكان، وذلك من خلال نظام الطيران المدني الذي نص صراحة على ذلك.
لا أدري مدى مخالفة أو موافقة منح رخصة ناقل جوي وطني لشركة غير سعودية في ظل التعريف الحالي الذي أوردته لائحة التنظيمات الاقتصادية في قطاع الطيران المدني، لكنني أفترض أن الشركتين (خصوصا تحالف شركة طيران الخليج) متوافقتان مع التعريف، ثم أتساءل: هل راعت الهيئة الأبعاد الأخرى المرتبطة بمثل هذا الترخيص؟ وهل كانت كراسة الشروط للمنافسة شفافة بما فيه الكفاية لتكون المنافسات المقدمة واعية بما تقدمه؟
ما زالت الهيئة تمنح الخطوط السعودية وقود الطائرات بأسعار تفضيلية مدعومة بشكل قوي، بينما حرمت من ذلك الدعم كل من طيران ناس وطيران سما بما يخل بميزان المنافسة في السوق الداخلي، فهل ستمنح الهيئة ذات الدعم للشركات الأجنبية الآن أم أنها ستبقي على عدم التوازن الحاصل حاليا أم أنها سترفعه فورا عن الخطوط السعودية؟ وكيف ستتعامل الهيئة مع نتائج كل احتمال من هذه الاحتمالات الثلاث؟
عندما بدأت كل من "ناس" و"سما" التشغيل حرمتا من حقوق النقل الجوي الدولي لمدة عامين بينما فرضت عليهما ما سمي حينها نقاط الخدمة الإلزامية مما أنهكهما ماليا، وقد فاقم من حجم الأثر انسحاب الخطوط السعودية من بعض النقاط لتواجه هاتان الشركتان تكاليف تشغيل تلك النقاط ليصلا إلى مرحلة النقل الدولي وقد أنهكتهما المصاريف والأعباء المالية، لتبدأ إشكالية أخرى، وهي أن اتفاقيات النقل الثنائية بين المملكة والدول الأخرى لم تكن معظمها تسمح بتعدد الناقلين، وكثير منها كانت تفرق بين النقل إلى المطارات الرئيسة وبين النقل لغيرها، كما أن بعضها يحدد سعة مقعدية معينة ورحلات محددة تستحوذ عليها الخطوط السعودية بكاملها تقريبا، مما أبقى الخطوط السعودية في وضع أفضلية عن الشركتين الأخريين، كما أن الخطوط السعودية حينها رفضت أن تمنح هاتين الشركتين أي تنازلات من خلال الاتفاقيات والصيغ التجارية المتاحة، فبدأ التشغيل الدولي معيبا أيضا. وسؤالي هل ستمنح الهيئة الشركات غير السعودية على طبق من ذهب نتائج مفاوضاتها مع الدول الأخرى للنقل المتبادل؟ أم أنها ستبقي الخطوط السعودية في وضعية امتياز تميزها عن غيرها وبالتالي تبقي ميزان المنافسة مختلا؟
بموجب التنظيمات الداخلية للطيران المدني، فإن الخطوط السعودية تحصل حاليا على ما يشبه رسوم الامتياز من كل شركة طيران ترغب في تشغيل رحلات الحج والعمرة، لأنها بتشغيلها لهذه الرحلات تنتقص من النصيب الممنوح للخطوط السعودية، وهذا الأمر لا ينطبق حتى الآن على الناقل الوطني الآخر (ناس). وسؤالي هل ستمنح الهيئة ذات الامتياز للخطوط غير السعودية بحيث تكون حصتها مساوية للخطوط السعودية في الحج والعمرة أم أنها ستبقي على هذا الامتياز حصريا لصالح الخطوط السعودية؛ بما يخل بميزان المنافسة ومعايير الحصرية في سوق النقل الجوي؟
قد تكون كل من الخطوط القطرية وطيران الخليج بحكم قدرتهما المالية أوفر حظا من الشركتين السعوديتين اللتين بدأتا مرحلة تحرير النقل الجوي الداخلي، ولكنني أخشى أن هذه القوة في ظل سيطرة الخطوط السعودية ستجعل أمر تأسيس شركة طيران محلية وليدة مستقبلا شبه مستحيل، لأنه سيكون المطلوب منها حينئذ أن تكون وليدا ينافس العمالقة دون تقنين.
إنني إذ أوافق الهيئة في توجهها نحو فتح سوق النقل الجوي للمنافسة لرفع مستوى الخدمات ومعاييرها بدلا من شبه الاحتكار الحاصل حاليا؛ إلا أنني في ذات الوقت أدعو الهيئة لأن تراعي النقاط الآنفة الذكر وغيرها من النقاط التي لا يتسع المقال لها، والتي قد يكون من شأنها أن تكون نتائجها سلبية على صناعة النقل الجوي على الأمد البعيد.