طرح ملف الحدود اللبنانية السورية نفسه مجددا في لبنان، وذلك بعدما كشف المخطط التفجيري الذي تورط فيه الوزير السابق ميشال سماحة وضابطان سوريان كبيران وتمثل في تهريب عبوات ناسفة ومتفجرات لاستخدامها في لبنان وإحداث فتنة، إضافة إلى الخروقات التي يقوم بها الجيش السوري من وقت إلى آخر، بحجة ملاحقة الثوار.

فمنذ اندلاع الثورة السورية والحدود بين البلدين، بدءا من عكار شمالا، والتفافا إلى عرسال (شرقا) وصولا إلى المناطق المحيطة بجبل الشيخ، تشهد اعتداءات شبه يومية من قبل جيش النظام السوري. وقبل تاريخ 15 يونيو 2012 أي عندما اتخذ مجلس الوزراء اللبناني قرارا بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع المناطق السورية لردع الاعتداءات السورية، لم يكن في هذه المناطق مؤشر على وجود الدولة سوى حاجز للجيش في شدرا الذي وضع لضبط حركة النازحين لا لردع حركة الجيش السوري الذي يدخل إلى الأراضي اللبنانية متذرعا تارة بعمليات التهريب وتارة بضرب المتسللين "الإرهابيين" عبر المعابر غير الشرعية المنتشرة في المنطقة، وهي متعددة وكانت مخصصة من الجهتين لتهريب مادة المازوت بشكل رئيسي ومواد غذائية. إضافة إلى حاجز آخر لقوى الأمن في عرسال مخصص لمراقبة حركة الفلاحين الذين يتجولون في بساتين الكرز التي يعتاشون من خيراتها.


حالة التوتر

فالاعتداءات السورية المتكررة والمفاجئة في أحيان كثيرة، جعلت حالة التوتر قائمة بشكل دائم وأدت إلى سقوط شهداء وجرحى ومعتقلين لبنانيين وأشخاص لا يزال مصيرهم مجهولا، إضافة إلى تضرر المنازل نتيجة أعمال القصف والرصاص الذي لا يتوقف ليلا من مواقع جيش النظام السوري، وإن مرت أيام هدوء، لكن وضع الاستنفار القائم يسمم الأجواء ويطرح كثيرا من التساؤلات حول مصير هذه المنطقة، حيث لا تحرك الدولة ساكنا في ملف الترسيم وهو مطلب دولي ومحلي تردد في أروقة مجلس الأمن والأمم المتحدة ولدى قوى 14 آذار التي حاولت في عهد حكومتي الرئيسين فؤاد السنيورة وسعد الحريري التوصل إلى صيغ تسمح بترسيم الحدود وتضع حدا لحالة الفوضى التي كانت سائدة نتيجة ممارسات شبيحة النظام في الاعتداء على مواسم الخير والحصاد بحجة أن الأشجار المزروعة هي في أراض سورية، فيما يؤكد المزارعون اللبنانيون أنها في أراض لبنانية.


مزاجية سورية

وأدى غياب القوى الأمنية اللبنانية عن حماية الحدود إلى تعريض الأهالي لمزاجية جنود الجيش السوري الذي ينكل بمواطنيه ويلاحق النازحين من أهل الثورة السورية داخل الأراضي اللبنانية، فيصطادهم بالقنص والألغام التي زرعها على الحدود تارة، وتارة بالقصف وأخرى بالملاحقة الاستخباراتية، مستهدفا الأطفال والنساء والجرحى من دون رحمة، كما تقوم دورياته بالتوغل داخل الأراضي اللبنانية لاستهداف اللبنانيين الذين يمدون يد المساعدة لجيرانهم وأقاربهم.

وتمثِّل حادثة مقتل مصور تلفزيون "الجديد" علي شعبان على سبيل المثال واحدة من الأمثلة الفاقعة حول ممارسات الجيش السوري لكنها ليست الوحيدة من نوعها، إذ سبق ذلك اعتداءات مختلفة. فمنذ اندلاع الثورة في سورية وتطور الأحداث الأمنية لا سيما في مدينة حمص وتلكلخ، حصلت توترات على الحدود الشمالية، إذ تعرضت قرى لبنانية عدة لاعتداءات، وكان لافتا تشدق الجانب السوري عبر إعلامه، باتهام السلطات اللبنانية بالتقصير في الحد مما سماه عمليات تهريب الأسلحة والمسلحين من لبنان إلى سورية. ومما يساهم في تعزيز تلك الاتهامات الملفقة التي جرى فضحها في أكثر من مناسبة، هو ادعاء وزير الدفاع اللبناني فايز غصن وبعض الأطراف اللبنانية الموالية للنظام السوري، عن وجود عناصر لـ"القاعدة" يتم تمويلها من قبل جهات لبنانية.





سواتر وألغام

ويقول رئيس مكتب الإغاثة اللبنانية السورية في منطقة وادي خالد محمود خزعل لـ"الوطن" إن الحدود بين سورية ولبنان في هذه المنطقة يفصلها النهر الكبير الجنوبي الذي ينبع من وادي خالد ويصب في البحر بمنطقة العريضة الغربية، وهي حدود برية، إذ لا عوامل طبيعية تفصل الحدود سوى منطقة زراعية متواصلة بعضها ببعض، لكن سورية أقامت فيما بعد سواتر ترابية فصلت الحدود البرية الزراعية، كما زرعت ألغاما على الحدود، بما فيها حدود النهر الكبير حتى العريضة الغربية والعبودية".

ويوضح أنه قبل هذه المرحلة، كان هناك تبادل تجاري بين وادي خالد والمناطق السورية المجاورة مثلها مثل أي حدود أخرى، ولكن بعد زرع الألغام لم يعد هناك شيء. الوضع الاقتصادي في وادي خالد أصبح سيئا جدا والسبب الآخر أنه لا وجود للدولة اللبنانية في المنطقة ولا رعاية للشعب وللأهالي". ويضيف: "لا يوجد في المنطقة دورة اقتصادية أبدا ولا توظيف، ويصل تعداد المنطقة إلى 40 ألف نسمة، ولذلك يلجأ بعض الأهالي إلى العيش من عمليات التهريب على الحدود من مواد معيشية".

وعما ذكره الإعلام السوري عن تهريب سلاح، قال خزعل "هذه محاولات مكشوفة لتشويه سمعة أهالي الوادي وتصوير أشياء وهمية عن وجود عناصر للجيش السوري الحر وعن عمليات تدريب وتهريب سلاح. لطالما كان السلاح يأتي من سورية إلى لبنان، فكيف سيعود السلاح من لبنان إذا لم يكن عن طريق من يدعمون النظام؟ ما يقال عن تهريب السلاح من هذه المنطقة كلام باطل ولا يوجد جيش حر وقد نفى رئيس الجمهورية ميشال سليمان ما قيل عن وجود خمس قواعد للجيش الوطني الحر في وادي خالد كما ادعى رئيس "تيار المردة" سليمان فرنجية، البعض له غايات وهو مع النظام ويروج لمثل هذا الكلام، هم يعتبرون أن هناك سلطة على هذه المنطقة عندما يريدون وأن المنطقة آمنة وسالمة عندما يريدون ويتهمون أهلها بأمور أخرى عندما يريدون".

ويرى خزعل أن "سورية لا تريد الترسيم أولا، لأنها حتى هذه الساعة لا تعترف بلبنان وتعتبره محافظة، وأتباعها اللبنانيون يروجون لنظرية أن لبنان محكوم من سورية طوال عمره، فمشكلة الترسيم سياسية بالدرجة الأولى وليست أمنية".

وعن الفائدة التي يحصل عليها لبنان من الترسيم؟ يجيب خزعل: "على الأقل أعرف أين حدودي وأقف عندها. فلا أفلح أرضي وأزرعها وعندما أريد أن أحصد الموسم يقال لي هذه أرض سورية، أتمنى أن يحصل الترسيم وتمنع المعابر غير الشرعية لصالح المعابر النظامية، نريد أن نحفظ رزق أولادنا وأطفالنا".


معابر غير شرعية

من جهته، يقول ابن المنطقة الزميل خالد عمر "النهر الكبير هو الفاصل على الحدود الشمالية بين لبنان وسورية وحدوده واضحة إلا أن هناك طرقا زراعية ترابية عادية تشكل جزءا من النهر توصل إلى قرى داخل الأراضي السورية، ولكن سكانها لبنانيون على سبيل المثال بلدة المشيرفة"، موضحا أنه "في الفترة الأخيرة، تم إغلاق كل المعابر غير الشرعية بالتنسيق بين الجانبين السوري واللبناني وتم زرع ألغام، ورفع سواتر ترابية ونشر الجيش السوري جنوداً مقابل الجيش اللبناني في المنطقة. ومن المعابر الموجودة حاليا التي يمكن الدخول أو الخروج منها المعبر بين المقيبلة والعريضة، باعتبار أن بين أهالي المنطقة المقسومين هناك صلة قرابة ولا بد أن يتواصلوا مع بعضهم البعض. أما بقية المناطق الحدودية تم فقد إغلاقها بشكل عاجل وتلغيمها.


تعاطف إجباري

تم إلقاء القبض منذ فترة على عدد من أبناء المنطقة بتهمة تهريب السلاح، كما يفيد عمر، مشيرا إلى أن "عمليات التهريب سابقا كانت محصورة على تهريب المازوت والمواد الغذائية، ونتيجة التضييق على بلدة الناعورة السورية لم يسمح الجيش السوري بالتهريب. وهذه العمليات تعتبر بالنسبة للمواطنين تجارة وهناك صلة قرابة بين الأهالي. مما يعني أن التعاطف مع أهالي سورية عفوي وغير مصنوع، وهو ليس بحاجة إلى قرارات من هذا الحزب أو ذاك".

ويعتمد أبناء وادي خـالد اللبنانية وتلكلخ السورية على التهريب، ويروي عمر أن إحدى "النساء شكت له بأن الجيش اللبناني ألقى القبض على أبنائها وهي مقتنعة بأنهم لم يقوموا بعمل يستوجب ذلك، وعندما سألها لماذا؟ قالت يعملون في التهريب الذي يعني بالنسبة إليها مجرد مهنة وليست جرما". ويجد أن "تهريب السلاح أمر طبيعي في المنطقة ولكن ليس من قوى سياسية وإنما من مهربي الأسلحة".


عرسال

أما في بلدة عرسال التي اتهمها وزير الدفاع في الحكومة بإيواء الإرهابيين، فلم نرَ خلال جولتنا على الحدود أي حركة مشبوهة، تشير إلى مثل هذا الموضوع، فأهل المنطقة يرحّبون بوجود الدولة وانتشار الجيش على الحدود لمراقبة وردع الجيش الأسدي من دخول أراضيهم والاعتداء على ممتلكاتهم، وترسيم حدود المنطقة.

ويشير الناشط السياسي خالد زيدان ابن البلدة وهو يتجول معنا على الحدود إلى أن "الفاصل بين لبنان وسورية واضح وهو سلسلة الجبال الشرقية وقد رسمها الجنرال الفرنسي شارل ديجول أثناء إعلان دولة لبنان عام 1920، والعلامات ما تزال موجودة على السلسلة وهي تشير إلى الحد الفاصل بين الأراضي"، لكنه يلفت إلى "تداخل حاصل في الملكيات والأراضي". وظهرت خلال الحكم السوري للبنان تجاوزات كثيرة، ومن بينها كما يروي زيدان "الاعتداء على أراض مملوكة للجمهورية اللبنانية لم يتم مسحها وكانت تستخدم من قبل "العراسلة" للزراعة، من خلال حق الانتفاع الذي مارسه أهالي بلدة عرسال في بعض هذه العقارات"، موضحاً أن "سوريين مدعومين من الأجهزة الأمنية والمخابرات ببلادهم أخذوا قسما من الأراضي ووضعوا سواتر ترابية مجتازين حوالي عشرة كيلومترات داخل الأراضي اللبنانية، وحتى الآن هذا الخلاف على ملكية الأراضي اللبنانية لم يحسم بصورة نهائية، فالصراع والنزاع حولها مستمر، واللجان المشتركة لم تضع حدا لهذه المسائل الإشكالية".

هذا ما كان الوضع عليه قبل الثورة السورية، ونسأله عن التطورات الحاصلة على الحدود حاليا، فيجيب قائلاً: "القوات السورية تجاوزت الحدود المرسومة بالطبع، وأطلقت النار على اللبنانيين وسقط جرحى نتيجة ذلك، وكذلك خلال عامي 2006 و2007 عندما وضعت السواتر الترابية ووضعت حواجز قيل إنها كمائن لمكافحة التهريب، لكن اليوم وبعد كلام وزير الدفاع عن وجود "قاعدة" كممر في عرسال، تجاوز الجيش السوري مواقعه الحدودية مرات عدة ليطلق النار على الفلاحين والمزارعين وسقط نتيجة هذه الأعمال العدوانية الشهيد خالد الفليطي وحالياً هذه المنطقة عرضة لخروقات كثيرة، في غياب أي وجود عسكري لبناني، فهنا يدخل الجيش السوري ويعود ساعة يشاء ومنذ فترة دخل تلفزيون "الجديد" فأطلقوا النار عليه بينما كان يبث إرساله على الهواء مباشرة، وجاء إطلاق النار من سيارة عسكرية سورية وذلك قبل استشهاد زميلهم علي شعبان في وادي خالد".

ويؤكد على مطلب الأهالي بانتشار الجيش اللبناني في كل المواقع بعد إنشاء عدة نقاط ثابتة وحواجز متنقلة في عدد من المناطق "لا سيما في بلدة طفيل الواقعة فوق بعلبك وخلفها قرى ريف دمشق".


حزب السلاح

يجد زيدان أن موضوع التهريب قائم منذ وقت طويل وهو ليس جديدا على حد تعبيره، إذ إن عمليات التهريب تحصل في كل المناطق الحدودية ومثل هذه العمليات تحصل بين كندا وأميركا والمكسيك، ما يهم هنا هو عمليات تهريب السلاح والسؤال لمن يتوفر السلاح لتهريبه. "نحن ليس لدينا سلاح، ولكن هناك طرف وحيد في لبنان يعلن أن لديه سلاحا ونحن مطوّقون من هذا الطرف في منطقتنا، نحن نعيش في منطقة أمنيا تخضع لـ"حزب الله" الذي يدخل السلاح وتتاجر به عناصره، هناك سلاح فردي عند بعض الأهالي وهذا السلاح طبيعي أن يكون موجودا، فهو سلاح صيد وبنادق موجودة في أيدي الفلاحين الذين يعيشون في الجرد والبساتين ويحتاجون إلى استخدامها في حال باغتهم حيوان ضار ليلا، وهذا السلاح لا يباع ولا يشترى، ولو كان لدى الفرقاء الآخرين سلاح لدافعوا به عن أنفسهم في 7 آيار. تجارة السلاح في لبنان موجودة ولها أربابها وهؤلاء محميون من حزب السلاح".

ويضيف "في هذه الظروف صار التهريب شبه مستحيل، لأنه لا أحد من اللبنانيين ومن أهالي المنطقة يمكن أن يخاطر بنفسه ليحضر مثلا صفيحة مازوت أو علبة سمن، هناك ضغوط أمنية كبيرة. وأهالي عرسال لا يدخلون إلى سورية، ومن يملك بساتين في منطقة الحدود لا يذهب إليها، حتى أهالي مشاريع القاع تركوا بساتينهم".