لو أن للأصوات أن تشبّه بالأقمشة والثياب لكان صوت هند البلوشي فستانا طويلا من المخمل العنابي الغامق الذي يليق بأخت العريس كثيرا. الفنانة الخليجية هند البلوشي موهبة غنائية جميلة لكنها لا تحظى بالشهرة الإعلامية التي تستحقها فمقاطعها على اليوتيوب على سبيل المثال ذات نسب مشاهدة غير مرتفعة مقارنة بغيرها من الفنانين الذين يقلّون عنها موهبة. والمعجبون بهند يصفونها بالفنانة "المظلومة" ويرون أنها تستحق لقب فنانة الخليج الأولى، وأن التاريخ سوف ينصفها يوما ما. وقد استوقفني هذا التعليق طويلا: هل سينصفها التاريخ فعلا؟ هل نثق بعدالة التاريخ؟ ليس تاريخ الفن وحده بل تاريخ الأدب والرياضة والعلم والسياسة، هل محاكمات التاريخ عادلة؟

في تاريخ كرة القدم السعودية، يبرز اللاعب فهد الغشيان كأحد المواهب النادرة الذي يملك ذكاء رياضيا مرتفعا يخدمه في حدود المستطيل الأخضر وليس خارجه، في ظاهرة متكررة تستحق التأمل والبحث عن الأسباب التي تجعل بعض اللاعبين يغيبون عن الساحة مبكرا وتطويهم عجلة التاريخ.

في تاريخ الأدب، سنعثر على الكثير من الشعراء المبدعين الذين عاصروا المتنبي، ولكن لم يسمع بهم أحد، لا لشيء إلا أنهم عاصروا هذا الشاعر المزعج الذين أشغل الناس بطموحاته التي لا علاقة لها بالشعر من قريب ولا من بعيد، فسجل اسمه في التاريخ بخط عريض جدا وبلون فسفوري يمنع رؤية غيره من الأسماء لأسباب لا تتعلق بالموهبة الشعرية بقدر ما تتعلق بعوامل أخرى.

في التاريخ السياسي والعسكري، نجد "مروان بن محمد" آخر الخلفاء الأمويين ابن الكردية. لا يبرز اسمه في التاريخ إلا في العام الأخير من حياته حين قتل عام 132هـ مع أنه قضى أكثر من ثلاثين عاما من حياته لا يفارق الغزو في سبيل الله.

في تاريخ العلم نعثر على الإمام الفقيه "الليث بن سعد" المتوفى عام 175هـ قال عنه الشافعي: "كان الليث أفقه من مالك إلا أنه ضيّعه أصحابه"، في إشارة إلى تقصير طلابه ومريديه في حفظ علمه وتدوينه ونشره بين الناس، وهي عبارة تضع أيدينا على أحد العوامل التي تتسبب في عدم الإنصاف التاريخي من ضمن عوامل أخرى ترتبط بالظروف والملابسات الاجتماعية.

وعلى العكس، سوف نجد أشخاصا لا يستحقون المكانة التي أفردت لهم في صدر المجلس التاريخي. والمثال هذه المرة من تاريخ الفلسفة فالأميركي جون ديوي الذي لا يخلو كتاب في التربية والتعليم وعلم النفس من اقتباس له لا يقارن كفيلسوف مع أسماء أخرى قدموا أعمالا أكثر عمقا وإثراء مما قدم، ومنهم: كيركجارد الدنماركي ورسل الإنجليزي وروسو الفرنسي لكنها القوة الاقتصادية والهيمنة السياسية هي التي وضعت ديوي وفلسفته البراجماتية في المقدمة.

كم هو مثير للإحباط التفكير في أن العمل الجاد والموهبة والذكاء لا تكفي للحصول على التقدير والاعتراف بإسهاماتهم، وأن الإنسان يحتاج لأن يكون في اللحظة التاريخية المناسبة وفي المجتمع المناسب. ولكن هذا الإحباط لا يمنع المبدعين الحقيقيين من الاستمرار في بذل الجهد، فالتقدير الذاتي والشعور الشخصي بالإنجاز يمثل دافعا كافيا جدا للكثير من المبدعين، وإلا فما الذي يفسر قدرة فنان تشكيلي على تمضية الأيام والليالي في رسم لوحة يعلم أنها لن تفارق منزله؟

إن الأمثلة كثيرة وسجلات التاريخ مليئة بالسطور الباهتة والسطور الفارغة، والأسماء تتساقط من تلك السجلات سهوا وعمدا. وعبر قرون طويلة سقط الكثير من الأسماء التي كان لديها شيء تقدمه، فذمة التاريخ واسعة هذا إن كان له ذمة، ولو أن التاريخ قاض لدخل النار إذ "ياما للتاريخ مظاليم". وكما غنّت هند: "أعتب على وقتي وزماني.. يا للأسف خابت بك ظنوني".