د. محمد خيري آل مرشد

النرويج


تأمل.. اخل بنفسك، تأمل ذاتك.. تأمل علاقتك بمن حولك وبما حولك.. اترك الدنيا ولو قليلا، تفرغ لنفسك، لروحك.. لقد تأمل الأنبياء والرسل والعظماء.. تأمل إبراهيم عليه السلام في النجوم والكواكب. كما تأمل رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في الغار.. ما هو التأمل إذاً؟

إنها رحلة الوعي في الفضاء الداخلي للنفس بعد الدخول إلى الذات، والتنقل بالأحاسيس والمشاعر في هذا الفضاء بين محطات عدة.. من الجسم إلى العقل وإلى الفكر والروح وأبعد من ذلك.. أسلوب حياتنا المتسارع واهتماماتنا والتزاماتنا المتنوعة والكثيرة تعرضنا باستمرار للتوتر والقلق، وهذا يستدعي أن نتوقف قليلا عن المسير وعن القيام بأي عمل أو إبداء أي جهد، وأن نخلو إلى أنفسنا، ومعها فقط، لتفريغ هذه النفس مما علق بها من شحنات سلبية تراكمت وقد ترهقنا إن لم تكن أرهقتنا.. ما هي إذاً أفضل الطرق للقيام بذلك؟

ما علينا إلا اختيار الفرصة والهروب بالذات إلى ذاتها، ويفضل إلى مكان رحب واسع ومريح للنفس والأعصاب بعيدا عن الضوضاء.. وجميل أن يكون الجو معتدلا ولطيفا.. عند الاستفراد بالذات استرخ تماما وقم بتهدئة كل الأفكار، وتحييد كل مؤثر خارجي على نفسك، وبعد أن تقوم بحوار إيجابي مع النفس حاول أن تتخلص من الأفكار السلبية التي لا بد أنها ستطفو؛ ولكن مصيرها الخروج، وبعد أن تتحرر من كل ما هو سلبي في داخلك، وبعد أن تغوص بهدوء في الفضاء الداخلي للنفس وإلى أن يتم الاطمئنان الداخلي التام، حيث يبدأ التواصل مع النفس بشكل سلس وسليم، وبعد أن تتمكن من خلق دائرة ربط واتصال صحيح بين نفسك وكل ما يحيط بك من مؤثرات خارجية، هناك تبدأ بناء الجسور وحلقات الوصل.. وبعد بناء جسور الثقة بينك وبين ذاتك وعند وصولك إلى مرحلة الانشراح والانسجام التام، تكون قد حلقت في الفضاء الداخلي لنفسك وأصبحت تراه بوضوح مرتبطا بالكون من حولك. تبدأ الرحلة بالانتقال من التفكير بالجسم إلى الولوج في العقل ثم الفكر والروح.. قم بعد ذلك بتفقد أحوال النفس بعد إعادة تقييم كل سلوك سابق وبعد استعراض ما عندك وما حولك وما يمكن القيام به.. لتطرح بعض الأسئلة ومنها: من أنا؟ كيف أعيش؟ ماذا أستطيع أن أفعل؟ ماذا أستطيع أن أقدم؟ ماذا أريد؟ ولماذا كل ذلك؟ رتب أفكارك من جديد واجعلها ما أمكن منسجمة مع بعضها.. فكر في علاقتك مع نفسك.. ومع من حولك.. ضع سلم أولوياتك الجديد.. ضع الأهداف، الأقرب فالأقرب.. ضع خطة عمل لكل هدف على حدة.. ماذا يمكن القيام به في كل حالة من الحالات؟

من الأهمية بمكان ترتيب هذه الأفكار، بحيث يكون بينها تسلسل وانسجام، وهذا ما يؤدي إلى تطوير المهارات النفسية لكي تقوم بواجبها ووظائفها بشكل أفضل، حيث إن كل تنافر وتناقض بينها لن يساعد على بناء الجسور وحلقات الوصل بينها، وهذا ما يصعب التنقل والمرور بين محطاتها بسلاسة.

التأمل العميق والغوص في فضاء الذات يحرر كل ما هو جميل بداخلنا من أفكار وأحاسيس وشعور، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى الشعور بالارتياح والانشراح. علينا أن نعطي أنفسنا الفرصة لتخلو بذاتها بين الفينة والأخرى، للتأمل والتدريب على ضبط النفس.. لا شك أنك بعد ذلك ستعود صافي الذهن مرتب الأفكار مرتاحا، مشخصا لأسباب متاعبك، واضعا الحلول المناسبة لأهدافك المستقبلية، مجدولها في تناسق تام بعد صياغتها من جديد، وواضعا الخطط الملائمة لتحقيق ذلك. هي إذا لحظات لا بد منها لشحن القوى الذهنية ولاستعادة العزيمة وتقوية الثقة بالنفس.. هذه الخلوات والاسترخاء والتأمل هي الطريق لتقوية أواصر علاقتك بربك وتوثيق هذه الصلة بالخالق.. كل هذا يزيل التوتر والانفعال والقلق ويؤدي بك إلى الشعور بالرضا والسعادة وتحقيق الأهداف التي رسمت.