اقترب موسم التسول وانتشار المتسولين، الذي بات ظاهرة يشتكي منها الصغير والكبير، وتزعج الزائر والمقيم. في حديث اليوم لن أتناول ظاهرة التسول التي سبقني إليها الكثيرون، ولن أتحدث عن سلوك المتسولين وطرق احتيالهم وأساليب استجدائهم، ولن أنظر بعين الإنسان إلى الحاجة والفقر الذي دفع بعضهم لمد اليد السفلى وأراق ماء الوجه ... ولن أكتب عن فقر بعض العائلات السعودية التي لا تجد ما تقيم به أودها وتصلح شأنها، هؤلاء الذين "لا يسألون الناس إلحافا"، و"تحسبهم أغنياء من التعفف". بل سأتحدث عن تسول عمال النظافة الذي نشهده على الدوام عند تقاطع الشوارع وقرب الإشارات المرورية، خاصة التي تقع على الطرق الرئيسية.

أغضب عندما أرى عمال النظافة يتسولون ويتركون أعمالهم التي تعاقدوا عليها، أو عندما أجدهم يزاحمون نابشات القمامة مصدر رزقهن ويتفرغون لالتقاط المعدن والكرتون من مجمل المخلفات. لا شك أن في سلوكهم هذا ما يثير السخط، وفي نفس الوقت ما يدعو للتساؤل: لماذا؟ وكلنا متفق على أن هذه ظاهرة لا حضارية، خاصة في بوابة الحرمين، وفي مدينة سياحية ، كمدينة جدة.

وأغضب كذلك عندما أذكر كم يُنقد هؤلاء المساكين أجرا مقابل أعمالهم تحت لهيب الشمس وفي شديد الحر أو قسوة الشتاء، وأشعر بالأسى عندما أسترجع صورا لمكان إقامتهم وطريقة عيشهم، التي أعرفها عن قرب.

ومنذ سنوات جمعتني، وبحكم التخصص، دراسة ميدانية على مخلفات المشاعر المقدسة خلال موسم الحج مع مجموعة من عمال النظافة والفنيين. وفي واحد من تلك الأيام تغير سلوك العمال مع اقتراب موعد الانصراف، وبدا عليهم القلق، وأحسست استعجالهم العودة إلى معسكرات الشركة، وعلى غير العادة. سألت أحد الفنيين عن الذي أصابهم وأسباب العجلة. فحكت إجابته قصة الجوع، قال: "نحن مجموعة من قرية واحدة نشترك مع بداية كل شهر ونجتمع على حفلة غداء من مطعم البيك، ووجبة كهذه لن يفوتها أحد". ينتظرون وجبة من البيك سعرها عشرة ريالات، ويشترك فيها أكثر من إنسان، ومرة في كل شهر! ثم نلقي باللائمة عليهم. أين حقوق الإنسان؟

وعندما كنت أزور معسكرات إقامتهم في تلك الأيام وبعدها، كنت أرى ما لا يقبله الإنسان، تكدسا للبشر وحالة معيشية مزرية ودورات مياه متعفنة، ومطابخ و"صالة طعام" تفوح منها رائحة الدهن القديم. يغسلون ملابسهم، من غير الزي الرسمي، بأيديهم في ظروف تدعو للشفقة. مياه قذرة تجري على الأرض أو في قنوات مفتوحة، وتطفو عليها الأوساخ ... صورة بشعة.

هل تعرف أن عامل النظافة لا يتقاضى أكثر من 300 ريال في الشهر، وهل تصدق أن سماسرة الاستقدام وتجار الرقيق يبتزون نصف هذا المبلغ مقابل وضع اسم العامل على قائمة المتعاقدين، وبعد أن يعدونه بجنة الفردوس بالعمل في السعودية. هل تعجب إن نبشوا القمامة لو عرفت أن أجر العامل في الساعة لا يتجاوز ريالا واحدا، قد لا يتم دفعه في موعده، وقد يتأخر أشهرا، بينما نظيره في دول أخرى يتقاضى في نهاية الأسبوع ما يقرب من 50 ريالا عن كل ساعة عمل! لماذا لا نلقي بكل اللوم على شركات النظافة؟ ونرغمها على معاملة هؤلاء بإنسانية، ونجبرها على نقدهم مرتبات تغنيهم عن نبش القمامة.

هذا على الصعيد الإنساني، ومن ناحية أخلاقية، أما لمن لا تقنعه الدوافع الإنسانية، فهناك إيجابيات أخرى من الناحية المهنية والحسابات المادية. نظرة إلى شوارع المدينة تكفي للحكم على مستوى الأداء. مبعثرات على كل الطرقات، عدا تلك التي يمر بها علية القوم وصناع القرار، وحاويات متسخة لدرجة أنك تستقذر وضع الزبالة فيها، وتنبعث منها أو من السوائل التي تتسرب منها روائح تصيبك بالغثيان ودوار البحر وأنت على اليابسة. أما طفح الحاويات فمنظر اعتاد عليه سكان الأحياء الفقيرة والمناطق المزدحمة. تمر عربة المخلفات ويلتقط العاملون عليها ما تيسر في الحاويات وما حولها من معادن ومخلفات ورقية وكرتون وبلاستيك، وفي كل يوم تمتد القائمة وتزداد معها أعمال النبش، ويقل التركيز على العمل الأساسي، وتتردى أكثر، وبسببها، كفاءة النظام.

فمن الإيجابيات المادية لتقنين الأجور، استقطاب شرائح عمالية بكفاءة أعلى ويرتفع لذلك معدل الإنتاجية ومستوى الأداء، وفيه كذلك تحسين روابط الولاء للشركة وزيادة الإخلاص في العمل. ويمكن توسيع دائرة المحاسن بإضافة البعد الاجتماعي إلى ذلك.

أظنه ممكنا أن تتعاون جمعية حقوق الإنسان مع وزارة التجارة وتضع حدودا دنيا للأجور، وأظنه من الممكن أن يتبنى مجلس الشورى ذلك. فمرتبات موظفي الأعمال الخدمية بحاجة إلى إعادة نظر وتقنين. ويجب ألا نصغي إلى أصحاب المصالح ومديري الشركات الذين لا يحكم معاملاتهم إلا الدرهم والدينار، ولا يهمهم إلا قيمة السهم في آخر العام.

ويجب كذلك رد حجة المقاولين الذين يبررون مواقفهم بمقتضيات المنافسة في السوق. هؤلاء يسلكون أقصر السبل وأسهلها لتخفيض قيمة العروض، ويجدون بغيتهم في حرمان هؤلاء من حقوقهم الإنسانية. مفارقة عجيبة؛ إنه لا يمكن التنازل عن أي من مواصفات أحدث وأثمن المعدات وآليات النظافة التي تقررها دفاتر المناقصة، ونتساهل بالجملة في ظروف معيشة العمال، ولا تهمنا أحوالهم. كم نحن نتجنى على آدمية هؤلاء؟ اللهم ارزقنا حب المساكين.