يُفترض بالإعلام أن يكون وسيلة لنشر الأخبار وتقصي الحقائق، وأن يكون هدفه المصداقية قبل أي شيء آخر، مما سيؤهله لأن يكون سلطة رابعة بعد السلطات الثلاث: القضائية والتشريعية والتنفيذية. وهو يتمتع بميزات تخوله أن يراقب الحكومات وكذلك المعارضات، والمسؤولين كما المواطنين. وكم أسقط الإعلام الجاد من حكومات منتخبة كما حصل في قضية الرئيس الأميركي نيكسون وفضيحة "ووترغيت"، وكم سلط الضوء على قضايا جوهرية ودفع الحكومات لاتخاذ قرارات صارمة وشجاعة. وهو كذلك ذاكرة الزمان وحافظ التاريخ، فالعديد من القضايا المهمة تتم العودة إليها اليوم عبر تصفح ما ذكرته وسائل الإعلام عنها آنذاك. وبالرغم من اعتقادي بعدم وجود إعلام مستقل، ولا حتى في زمن الإعلام التفاعلي الشبكي، ومع معرفتي بأن الإعلام عموما يبحث عن الخبطات الصحفية والمفرقعات الإخبارية، إلا أن درجة الاستقلالية والمصداقية تتفاوت كثيرا ليس فقط من بلد لآخر، وإنما من صحيفة لأخرى في البلد الواحد. فهناك صحف رصينة، وأخرى توصف بأنها صحافة صفراء تقتات على الفضائح، وتقدم الإثارة على الحقائق. لكن المشكلة الأكبر تقع حين يسيطر هذا النوع الأخير السيئ من الصحافة على جل مصادر الإعلام في بلد بعينه، بحيث تصبح الحقيقة هي الضحية، ويغدو الأمر أكثر إيلاما في حالة تعلق الموضوع بحياة إنسان أو سمعته، خاصة إذا كان قد فارق الحياة، وبالتالي لا يستطيع الدفاع عن نفسه.
قبل بضعة أشهر تعرض مبتعث سعودي للقتل في إحدى دول الابتعاث الأجنبية، وإذا كان خبر القتل قد نزل نزول الصاعقة على أهله المكلومين، ففقدان ابن هو مصيبة عظمى بكل المقياس، فما بالكم إذا كان قد مات مغتربا ومقتولا؟!، إلا أن التغطية الإعلامية البائسة قد زادت من معاناة العائلة وجرحها. فهذه التغطيات كانت تستند في أحسن الأحوال على افتراضات لا أساس لها من الصحة، وأخرى تحمل تفصيلات خاصة لا تهم القارئ، وثالثة تستقي معلوماتها من صحف أجنبية، ثم تقدم ترجمة ركيكة وغير صحيحة لما ذكر فيها، كل هذا قبل استكمال التحقيقات وقبل وصول جثمان القتيل، وقبل ظهور النتائج النهائية من قبل السلطات الأجنبية. وهو ما دعا القائم بأعمال سفارة خادم الحرمين الشريفين في ذلك البلد للتعبير عن استيائه من هذه المعلومات المتداولة في إعلامنا المحلي عن ظروف وملابسات الحادث، واعتبرها ليست سوى تكهنات.
ووصلت الجرأة ببعض الصحف إلى درجة نسبة أقوال زورا إلى عائلة الفقيد، وحين اعترضت العائلة لاحقا لدى تلك الصحيفة عن هذه الافتراءات عرض عليهم الصحفي (كاتب الخبر) تقبيل رأس والد القتيل! وكأن هذه القبلة ستزيل الضرر الناتج عن نشر صورة ابنهم في الصفحة الأولى والاتهامات المبثوثة هناك دون أدلة. والدقة الإعلامية مفقودة حتى في أمور بسيطة مثل وقت صلاة الجنازة على الميت، وهي معلومة لا يصعب التحقق منها لمن يريد بذل الجهد للوصول إلى الحقيقة. ولعل الأمر الأكثر إثارة للاستياء هو محاولة صحيفة أخرى ممارسة نوع من النفاق الإعلامي الذي لم يطلبه أحد منها، وذلك مع إمارة المنطقة التي ينتمي إليها الفقيد. فقد حضر العزاء أحد الصحفيين، وسأل ذوي القتيل مباشرة إن كانت قد وصلتهم تعزية من أمير المنطقة، وهو أمر غير ملزم بالمناسبة لسموه، وإن فعل ذلك فجزاه الله خيرا، فردت العائلة بأن ذلك لم يحدث، فإذا بالعنوان يتصدر الصفحة الأولى في اليوم التالي: أمير ( ) يعزي ذوي الفقيد!
ويبدو أن الأمر لم يكن قاصرا على الصحف المحلية، فحتى الصحف السعودية الدولية تبرعت هي أيضا بإضافة بعض التوابل على القصة، وبنشر معلومات خاصة عن الشاب المقتول، ونسبها لمسؤولين في السفارة أو الملحقية، مع تأكيد القائم بالأعمال لذوي الفقيد بأن السفارة لم تقم سوى بالتصريح سوى بالبيان الصحفي الرسمي حول القضية، والكثير من صحفنا تبرعت باستكمال ما تريد استكماله من عندها. وهنا تظهر المفارقة العجيبة لدينا في هذه القضية، فهنا نشهد تعاونا بين عائلة الفقيد والسلطات السعودية في الداخل والخارج، ويظهر رضا الأهل عن إدارة الدولة وممثليها لهذه المصيبة التي نزلت بهم، مع استياء كلا الطرفين من التعاطي الإعلامي مع القضية، بدلا من حصول العكس، وهو أن تلجأ العائلة للإعلام لإنصافها من تقصير السلطات.
وبالرغم من أنني أكتب هنا عن حادثة بعينها، آثرت ألا أذكر تفصيلاتها الدقيقة؛ احتراما للعائلة إذ يكفيها ما لحق بها من الإعلام، لكننا شاهدنا تكرر هذه التصرفات في أكثر من قضية سابقة، خاصة إذا ما تعلق الأمر بإيقاف شخص أو محاسبته أو بجريمة مثل القتل أو الإرهاب أو التعذيب أو الاغتصاب أو غيرها، حيث تخلط بعض الحقائق بالكثير من الشائعات التي تتحول بدورها إلى حقائق في ذاكرة الناس. ولأن نفس صحافتنا ليس طويلا، ففي الغالب لا تتم متابعة ونشر ما توصلت إليه التحقيقات النهائية بالفعل، وهكذا قد تضيع سمعة إنسان أو كرامة أسرة ظلما.
مقالي هذا يُفترض أن ينشر في صحيفة سعودية، وأنا أعتز بأن انطلاقتي الحقيقية في عالم الكتابة كان من هذه الصحافة التي أتمنى لها أن تزهر وترتقي لمستوى الصحافة العالمية، بل وآمل أن تتفوق عليها بابتعادها عن المعايير المزدوجة، والأحقاد الثقافية التي تعاني منها الأولى خاصة تجاه القضايا العربية. ومن أجل أن يتحقق ذلك، فلا بد من وضع الإصبع على موضع الخلل ليتم التعامل مع المرض بجدية. نعم لدينا خلل كبير في تأهيل الصحفيين، ولدينا ضعف في صياغة الأخبار، والصحافة الاستقصائية الجادة شبه معدومة في إعلامنا، وحتى التدقيق اللغوي والنحوي ليس كما ينبغي، وهذا كله لا يليق بصحافة عريقة انطلقت من هذه الأرض منذ أكثر من قرن من الزمان. فأي صحيفة من صحفنا ستكون لها الريادة في حمل شعلة الإصلاح الأولى؟.