يقول ويل ديورانت، المؤرخ الأمريكي الشهير: "رغم أن الدول تبدأ بالقهر والإجبار، إلا أنه سرعان ما تصبح الطاعة عادةً في ضمير الناس، ومن بعد ذلك يهتز شعور كل مواطن ولاءً للعلم"، هذه الملحوظة التي يطلقها ديورانت بعد سنوات من البحث في مصائر الدول وسيروراتها السياسية عبر التاريخ، تشكلاً ونهوضاً واستقراراً وفناءً، يمكنها أن تنسخ كما هي في كتب الاجتماع والسياسة والنفس والتاريخ والأنثروبولوجيا، لأنها فعلاً حصيلة كل هذه التقاطعات العلمية، وهذا التعقيد يفسر غرابتها كفرضية تصف بدقة سلوك الإنسان ذي الذاكرة الضعيفة. وهي من زاوية أخرى تؤسس لنظرية سياسية خلاصتها "أن ما بني على باطل يمكن أن يتحول إلى حق"، ما دام البشر واقعيين بالفطرة وليسوا أصوليي النزعة.

ومن الواضح أن ساسة التاريخ تواصوا بهذه النظرية المفيدة لهم كابراً عن كابر، وطبقوها كما هي في أزمنة وظروف حضارية مختلفة، لتأتي في النهاية بنفس النتيجة، مع اختلاف المصطلحات السياسية طبعاً والتي تصبح أكثر تحوراً وتمويهاً كل ما تقدم الزمن إمعاناً في دفن الحقيقة الأولى. فالخيانة البروتسية مثلاً أصبحت انقلاباً أبيض، ونقض الشرعية أصبح ثورة مجيدة، والاحتلال الأجنبي أصبح تحريراً ودمقرطة، والإرهاب المنظم أصبح جهاداً مقدساً، هذا وقائمة التزييف النظري للأفعال السياسية لا تنتهي، مع احترامنا للسياسة كعلم، وفرقها عن السياسة كممارسة وأداة للتمويه الشعبي.

التنقيب وراء حيثيات نشوء الدول قد لا يلغي شرعية واقعها المعاصر، عملياً على الأقل، ولكن ترويج التاريخ المجيد كنبراس لمستقبل الأمة يمكن مواجهته بالأسئلة الأخلاقية دائماً، لأنه لم يطو وينته أمره بل ثمة قوة سياسية تعيد بعثه، مما قد يؤدي إلى تكرار أخطاء الماضي أو استخدامه لتبرير مخالفات إنسانية وأخلاقية جديدة. ففي حال كون الدولة قد نشأت نتيجة لثورة ما، فإننا نجد الثوّار الذين يتربعون اليوم على مقاعد السلطة في بلادهم يذكّرون الناس بتاريخ الثورة كل يوم، وودوا لو يحقنونه في أوردة الأجيال التي لم تشهدها. ولكنهم في حقيقة الأمر، بتمجيدهم للثورة، فإنهم يبيحون استخدام العنف للوصول إلى السلطة، بينما يحاكمون الخارجين عليهم بنفس هذه التهمة. فالثورة شرعية فقط إذا نجحت، أما إذا فشلت فهي خيانة عظمى.

إيران تضرب مثالاً على ما سبق، فالحكومة الحالية وصلت إلى سدة الحكم كنتيجة تسلسلية للثورة التي اندلعت قبل ثلاثة عقود، ولذلك تتمسك هذه الحكومة بأصوليات تلك الثورة، وتسعى لتثبيتها في الوجدان الشعبي استمداداً لشرعية بقائها. ولكن الثورة التي اندلعت آنذاك كانت أعتى وأشد من المظاهرات التي انطلقت أثناء انتخابات العام الماضي، ورغم ذلك وصل قادة الثورة القديمة إلى الحكم، واستحقوا الخلود والتمجيد، بينما يحاكم قادة المظاهرات الأخيرة حالياً كمجرمين ومحرضين على السلطة. ومهما بررت السياسة هذا التناقض فإنه يظل مداناً من منطلق الفلسفة المجردة التي تقول إن: السلطة للأقوى فقط.

وبما أن قائد الثورة يتحول، أوتوماتيكياً، إلى رأس السلطة في حال نجاح ثورته، فإن هذه الآلية البدهيّة تمنحنا زاوية خفية يمكن أن نفهم من خلالها الأبعاد السوسيو-سيكولوجية للثورة (علم النفس الاجتماعي). فالمفترض أن الثورة هي انتفاضة ضد الظلم، ومحاولة لتغيير الواقع، ولكن الأغلبية الساحقة من ثورات العصر الحديث لم تكن أكثر من تغيير جبريّ في هرم السلطة باستخدام العنف كوسيلة والشعب كأداة. ثورات عديدة تسجلها كتب التاريخ بوصفها ثورات وهي ليست إلا انقلابات، بينما أن ثمة ثورات حقيقية من واقع منطلقاتها الأخلاقية (دفع الظلم وتغيير الواقع نحو الأفضل)، ما زالت مدفونة في أرشيف أجهزة المباحث في العالم بوصفها محاولة آثمة لإثارة البلبلة والخروج على نظام الحكم.

هذا في حال كون الدولة نشأت كنتيجة لثورة ما، أما إذا كان نشوؤها مجرد امتداد تاريخي وثقافي لحضارة ما، فإن السلطة تسعى في أغلب الأحيان لفرز تاريخي في أصول تلك الحضارة، فتتمسك منها بما يعينها على البقاء وتنبذ ما يهدد شرعيتها وثباتها. هذا الفرز التاريخي قد يتراوح بين التلاعب بالمعاني التاريخية إلى التزوير المتعمد للتاريخ. لقد وجدنا دولاً عديدة في واقعنا المعاصر تعالج كساحها الثقافي بادعاء كونها امتداداً لحضارة بائدة لم تأخذ منها إلا الاسم أو التطابق الجغرافي، وليس مقومات النهضة ودروس الحضارة ولا حتى التسلسل العرقي، بل ونرى دولاً أخرى مثل إسرائيل تتخذ قرارات يومية مؤثرة في حياة الناس وتقيم كيانها السياسي بأكمله بناءً على ادعاءات تاريخية غابرة لا يمكن إثباتها ولا دحضها إلا في أوراق الكهنة. المشكلة ليست في بحث هذه الدول عن عماد تسند به قوامها السياسيّ ولكن في كونها، من خلال ما تملكه من سلطة وقدرة على التأثير في أفكار الشعوب، تستخدم الماضي كوسيلة لتعطيل العقل الأخلاقي المعاصر الذي يحاول بناء هرم الأخلاق بناءً على معطيات الإنسان وواقعه، مما يعطّل من تقدم الإنسان أخلاقياً وفلسفياً وحضارياً، لأن قياداته السياسية تحقنه بشكل منهجيّ، جيلاً بعد جيل، بالأفكار التي تخدم السلطة في حالتها السياسية المعاصرة، ولا تخدمه هو في سيرورته الإنسانية العامة.

السياسة، عندما تكون مجرد أداة لتدعيم كيان السلطة، تكون صفيقة بطبعها، وتجعل مقولة ديورانت في محلها، لأنها لا تكون آنذاك إلا وسيلة لتقليب مشاعر الشعب حسب أهواء السلطة، أما عندما تكون السياسة ممارسة جادة لمنع الشعوب والأمم من التصادم ورسم مسارات التعايش، فإنها تكون عِلماً يستحق الاحترام. ولكن الفارق الشاسع بينهما يدفعنا للمطالبة باستحداث مصطلحين منفصلين يمنعان الممارستين من التداخل في المفهوم العام. فمن يسعفنا بالمصطلح الجديد؟