سبعة أشهر تفصل بين وقائع مباراة كرة القدم بين (مصر – الجزائر)، وبدء وقائع المحاكمة في قضية (خالد سعيد) الشاب المتوفي تحت تعذيب مخبري الشرطة، لكن الحادثتين تستدعيان التأمل ضمن إطار واحد كحالتين نموذجيتين من الاعتداء المتعمّد على حقوق الإنسان وكرامته (.. وحياته في حالة خالد سعيد)، وملاحظة اختلافات المواقف والتفاصيل.
من المثير ملاحظة حالة الغليان العامة التي كانت في الحالة الأولى، وتحولها إلى القضية الرئيسية للإعلام المصري والجزائري، حرص إعلام البلدين على تصعيدها وتصديرها إلى الخارج وانخراط الإعلام العربي فيها، ومن المثير ملاحظة الانحياز التام وغير المتردد لحقوق المواطنين وكراماتهم إعلاميا وجماهيريا، حتى الفنّ والثقافة حسما ترددهما الاعتيادي في المناخات الاستبدادية وظهرا في صفوف المشجعين، بل قد تكون هذه هي الحالة الوحيدة عربيا التي تنحاز فيها الأجهزة الرسمية بكل ثقلها إلى المواطن وحقوق الإنسان! في المقابل، يعرف كلّ من تابع قضية (خالد سعيد) المتفاعلة منذ يونيو الماضي حجم التشويش والتهميش للقضية وتداعياتها، وسلوك الإعلام الرسمي تجاهها، وضعف التفاعل معها عربيا.
لولا مجموعات الفيسبوك المخصصة للإعلام والتنسيق في قضية (خالد سعيد) لبقيت مجرد حادثة فرد واحد (وهذا يفسر لماذا لا تزال بعض الدول العربية تحجب الفيسبوك حتى الآن). وكل هذا رغم أن العنف الكروي كان حادثة عابرة بينما قضية (خالد سعيد) هي رأس جبل الجليد لحالة مستمرة منذ عقود من العُنف المُنظم ضد المواطنين. هذه مفارقة نمطية عربيا: فعندما يضربنا الآخرون في مباراة ما أو حادثة عرضية تصبح حقوق الإنسان وكرامات المواطنين أداة بيد النزعة الشوفينية وحُمى الانتصار للذات ومعاني السيادة الوطنية، أما عندما يضربنا (أخونا الأكبر) داخل فناء البيت كما ضَرَب عناصر الشرطة (خالد سعيد)، فهو يفعل من باب أداء الواجب وحماية الوطن والخوف على المواطنين، وهو مُجتهد إن أخطأ له أجر، وإن (أصاب) فله أجران... حتى لو كانت إصابته بهذا القدر من العنف والترويع.
مثل هذا التجزيء والتوظيف والتناقض، هو ما يحوّل قضية حقوق الإنسان إلى قضية سخيفة. أنا آسفة، لكن فعلا هذه هي صورة حقوق الإنسان كما تبلورت الآن في وعينا العربي، رغم أننا نحتاج مفاهيمها ومظلتها – عربيا – أكثر من بقية العالم. لكن العبث بها حولها إلى قضية مجانية عند بعض الأفراد، و(بريستيج) عند البعض الآخر، وموضوع ميؤوس منه وعبثي في أفضل الأحوال. تتشارك في العبث المنظمات الحقوقية الدولية والحكومات والأفراد.
المنظمات الدولية التي لا تملك في تقاريرها السنوية سوى رجيع الأخبار والحوادث المتفرقة مع عجز تام عن سبر حقيقة الوضع بالنسبة للقطاع الأكبر من الشعوب. والحكومات التي تعجز عن احتمال نشاط حقوقي إنساني مستقل وحقيقي، فتبادر إلى احتواء المبادرات الحقوقية وبدلا من أن يؤدي هذا إلى تحسن وضع حقوق الإنسان في الوعي والممارسة الحكومية، فإنه يؤدي إلى (حوكمة) حقوق الإنسان وتحويلها إلى مجرد دائرة أخرى تتلقى موازنتها السنوية من الحكومة. وأخيرا وحديثا هناك إسهام الأفراد في تسخيف القضية، عندما يتحول النشاط الحقوقي إلى لقب مجاني يُحصل عليه بمجرّد طقطقة كيبورد أو التوقيع بالأسماء دون هوية أو التزام فعلي بموقف ما. أو بفعل الحركات الارتجالية عديمة الجدوى كتوجيه المناشدات والنداءات لرؤساء الدول، حتى عندما تنتفي الأشراط السياسية التي تجعل النداء مسموعا أو مؤثرا. وأخيرا وهو الأهم عندما يتركز النشاط على قضايا فردية – أو جمعية – مُنتقاة لأنها تمثل أهدافا سهلة و(ترويجية)، غاضا الطرف عن قضايا موازية لأنها أكثر خطورة أو تعقيدا. هل يمكن للنشاط الحقوقي الإنساني أن يكون انتقائيا؟ من الغريب أنه من الصعب تذكّر عدد من المنجزات الحقوقية يوازي العدد الكبير من (أسماء) الناشطين الذي يمكن تذكره في نفس اللحظة.
من المعتاد في مسألة حقوق الإنسان أن نتجنب النقد ووضع العصيّ في الدواليب. ومن المفترض أن نكون شاكرين لأيّ جهد بهذا الصدد. وآملين في أن تراكم الجهود سيُثمر في النهاية كما تقول الأمثولة (النضالية). لكن الواقع كما أراه يقول إن هذه الأمثولة مثالية جدا وعالية جدا، عالية إلى درجة أنها تسمح بتمرير أشياء وأشخاص كثيرين لا علاقة لها أو لهم من قريب أو بعيد بالإنسان، أو حقوقه.
في نوفمبر الماضي كنت أجد صعوبة في التعاطف مع الهيجان الشعبي العارم في مصر والجزائر، وأتساءل إن كان نفس الأشخاص على استعداد لاتخاذ موقف بنفس القوة تجاه قانون الطوارئ وتطبيقاته في مصر مثلا؟ قد تخلو الحركة الشعبية الآن ضد قانون الطوارئ من الوجوه الإعلامية والفنية والثقافية التي حضرت بقوة على مدرجات ملعب الكرة، لكن المعتصمين أمام مبنى المحكمة أو المشاركين في الفيسبوك قد يكونون فعلا نفس الأشخاص، وهذه بداية طيبة للوعي بأن الحقوق لا تتجزأ.