يطغى على الساحة المحلية اليوم الانفتاح الفكري والثقافي، الذي أوجده التقدم الهائل في وسائل الاتصال، فتكاد لا تغلق قضية حتى تفتح أخرى، فتترك الأبواب مشرعة والقضايا مطروحة، يتداولها الناس بمختلف فئاتهم ومستوياتهم الثقافية، فضلا عن مستوياتهم العمرية، لا نحن نصل فيها إلى اتفاق أو حل يرضي جميع الأطراف، ولا نحن نسلم بها، ونتركها تأخذ مجراها حتى تختفي من تلقاء نفسها وتذهب في غياهب النسيان، وقد تظهر هذه القضية أو تلك على السطح مرة أخرى، في وقت تتراجع فيه القضايا، أو تظهر في إثر قضية أخرى كنواة لها على اعتبار أنها تنتمي إليها، وإن لم تماثلها تماما، فيعود الناس مرة أخرى يتداولونها في مواقع تواصلاتهم التقنية فضلا عن مجالسهم، ويثيرها غالبا من يملكون زمام السيطرة على التوجهات والأذهان، الذين يمثلهم اليوم تياران فكريان متضادان، في ظل غياب واضح للفكر الوسطي، وغياب هذا النوع من الفكر عن الساحة لا يعني عدم وجوده لكن أصحابه إما أنهم يتورعون أن يحملوا وزر غيرهم، أو أنهم انحازوا إلى أحد التيارين بعد مواربة تقل أو تكثر حسب درجة الوسطية التي يتمتع بها فكرهم.
وما يثير العجب ويزيد في تأصل المشكلة أن كليهما يعتقد أنه الوسط، أو هكذا يدعي ولا يزالان يتكايلان التهم ويتبادلان التجريح دون أن تغلب حجة أحدهما على الآخر.
والمؤكد في هذا الموضوع أنه ظاهرة حتمية، فإذا كان الخلاف يدب بين أفراد العائلة الواحدة، فما بالك بعائلة يعد أفرادها بالملايين بلغ بينهم التواصل درجة تلاشت معها حدود المكان والزمان، لكن ما يبعث على التفاؤل في هذا الأمر الأمل في أن يجد هذان التياران نقطة ما للاتفاق، على اعتبار أنه من الطبيعي أن الأقطاب المختلفة تتجاذب طال الزمان أو قصر، فنصبح أمة وسطا كما أراد الله لنا.