رؤيتنا للعراق لا تزال أسيرة صور نمطية أو أيدولوجية معينة، أبعد ما تكون عن فهم تعقيد السياسة العراقية الحالية. فاختزال العراق بكونه أصبح مجرد دولة تابعة لإيران، رغم التأثير الإيراني الكبير، أو أن العراق أسير رؤية طائفية معينة بسبب قيادته الشيعية هو في النهاية تصور لا يكشف سوى جانب واحد فقط من علاقات القوة التي تحرك السياسة العراقية اليوم.

على الصعيد المذهبي كشفت الانتخابات البرلمانية لعام 2010 نزوع العراقيين تجاه الأحزاب المدنية على حساب الأحزاب الدينية؛ فحصلت قائمتا "العراقية" بقيادة إياد علاوي و"ائتلاف دولة القانون" بقيادة رئيس الوزراء نوري المالكي على مجموع 180 مقعدا بينما حصل الائتلاف الوطني العراقي (التحالف الشيعي) على 70 مقعدا. ومن جهة أخرى رغم أن الائتلاف الوطني الذي يضم قوى شيعية دينية كالمجلس الإسلامي الأعلى بقيادة عمار الحكيم، أو التيار الصدري، ينظر لها على أنها تابع لصيق لإيران، إلا أنه لا أصدقاء أو أعداء دائمين في السياسة.

لقد كان نوري المالكي هو من قاد الحملة العسكرية في عام 2008 ضد جيش المهدي بقيادة مقتدى الصدر الذي كان حينها حليف إيران القوي، ونجح بمساعدة الولايات المتحدة في توجيه صفعة قوية لإيران في وقتها (وهو ما سمح بعودة العرب السنة للمشهد السياسي في العراق). المجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري كلاهما انقلب اليوم ليقف في اصطفاف معارض لإيران بسبب الصراع الدائر على خلافة آية الله السيستاني، وهو ما يعكس صراعا تاريخيا بين كل من حوزتي النجف (العربية) وقم (الفارسية). المجلس الإسلامي الأعلى قام بتحويل مرجعيته لآية الله محمد سعيد الحكيم (المرشح لخلافة آية الله السيستاني)، بينما التيار الصدري يتبع مرجعية آية الله كاظم الحائري.

اختزال العراق أو بعض أطيافة في كونها مجرد تابع لإيران هو قصور تحليلي كبير، ويخدم الاصطفاف الطائفي الذي تسعى إيران لتغليبه في المنطقة. فرغم وجود ارتباط مذهبي كبير بين إيران وشيعة العراق، فهناك من جهة أخرى تنافس كبير يصل حد الصراع بين كل من حوزة النجف (العربية) وحوزة قم (الفارسية)، حيث تسعى إيران للسيطرة على حوزة النجف من خلال إعداد آية الله محمود الشهرودي (التابع لإيران) لخلافة السيستاني على رأس الحوزة، وهو ما يعارضه مقتدى الصدر الذي يبدي مؤخرا محاولات لإظهار خط عروبي شيعي منفصل عن إيران.

المالكي الذي كان خلال انتخابات 2010 معارضا ورافضا للانضمام للائتلاف الشيعي الذي تدعمه إيران، عاد للجوء إليها بعد الانتخابات لدعمه وكذلك لم تجد إيران بديلا قويا تدعمه، في المقابل فإن كل من مقتدى الصدر وعمار الحكيم اللذين كانا حليفين لإيران خلال 2010 تحولا اليوم لمعارضين للمالكي وبالتبعية للتوجهات الإيرانية في العراق (خاصة بعد دعم إيران لجماعة عصائب أهل الحق المنشقة عن جيش المهدي بقيادة قيس الخزعلي وهو ما أغضب مقتدى الصدر).

الموقف من الوضع السوري يكشف الكثير، فالمالكي الذي اتهم نظام الأسد في السابق بالضلوع في الهجمات الإرهابية التي شهدها العراق، ودعا لفتح تحقيق دولي بخصوص هذا الأمر أصبح اليوم مثار انتقاد من معارضيه لدعمه نظام الأسد بسبب علاقته مع إيران. وفي المقابل يقوم آية الله السيستاني بفتح قنوات حوار مع المعارضة السورية، وكذلك قام عادل عبدالمهدي (نائب الرئيس العراقي سابقا وأحد قيادات المجلس الأعلى) بالترحيب بالمعارضة السورية. واليوم تشير المؤشرات لدعم المالكي لمرجعية الشهرودي لقيادة حوزة النجف كبديل يضعف منافسيه من القيادات الشيعية العراقية.

ظلت سورية في الفترة 2004-2007 المعبر والداعم الرئيس للحركات الإرهابية في العراق ورغم مهاجمة المالكي لسورية في حينه، يقف اليوم معها بسبب تحالفه مع إيران. ومع ذلك يظل المالكي – رغم علاقته مع إيران – أبعد من مجرد دمية لها كما يظن البعض. المالكي كما يتضح من خلال صراعه الأخير مع الأكراد حول كركوك (الغنية بالنفط) لم يتوانَ عن استدعاء الدعايات العروبية من خلال تكوين قوات دجلة (ذات الغالبية السنية الموجودة في محيط كركوك) لمواجهة قوات البيشمركة الكردية. تحركات المالكي هنا تكشف عمق وتعقيد السياسة العراقية، حيث يقف المالكي حينا مع إيران، ويقف حينا ضدها من خلال السعي لزيادة حصة العراق من سوق النفط العالمي على حساب إيران (بعد أزمة العقوبات الغربية عليها). وكما تسعى إيران لمد نفوذها من خلال بعض المكونات الشيعية في العراق، تسعى تركيا لمد نفوذها في العراق من خلال الأكراد، وبالأخص الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود بارزاني (بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وكردستان العراق في عام 2011 حوالي 8 مليارات دولار). فالساحة العراقية أعقد من مجرد التصورات الاختزالية التي يطرحها الإعلام.

المالكي هنا في أزمته مع الأكراد يستدعي القومية العربية لإيجاد جبهة داخلية عربية قوية (شيعية/ سنية) وهو أمر ربما يحظى بدعم إيراني كونه يواجه ويحد من نفوذ تركيا في العراق، ولكن هذا الاستدعاء العروبي هو في حد ذاته سيف ذي حدين على رقبة إيران. ففي النهاية يتمثل جوهر الصراع على كركوك بين المالكي (والحكومة المركزية بالتبعية) وبين الأكراد على ثروة النفط التي تمثل السلاح الأهم في يد من يملكه. والمالكي يعي أن مستقبل سيطرته على كركوك الغنية بالنفط مرتبط بتوافقه مع المكون العربي السني الغالب هناك، (صرح المالكي مؤخرا باحتمال قيام حرب قومية عربية/ كردية بسبب كركوك)، هذا الارتباط مع السنة هو أيضا الضمانة ضد تقلبات الوضع حال نجاح المعارضة السورية في التخلص من حكم نظام بشار الأسد وما سيحدثه هذا الأمر من تغير في الخريطة الجيو-سياسية للمنطقة.

رغم ما يبدو على سطح السياسة العراقية من اصطفاف مذهبي، فإن السياسة العراقية هي أبلغ دليل على أنه لا توجد صداقة أو عداوة دائمة في السياسة وإنما مصلحة مستديمة. العراق والخليج (السعودية خصوصا) كانا قبل حرب الخليج وما تبعها على وفاق استراتيجي لا بسبب كون القيادة العراقية سنية، وإنما بسبب عوامل جغرافية وسياسية واقتصادية في المقام الأول. رغم التقلبات التي حدثت بسبب الحرب الأميركية على العراق وما أفرزته تظل هناك مساحة للبحث عن القاسم المشترك بين الخليج والعراق على ضوء الوضع الجديد على الأرض. ورغم كل الاهتمام الخليجي بالتحول الاستراتيجي في سورية فإن العراق يمثل الجائزة الكبرى والأهم استراتيجيا بالمقارنة مع سورية، وهو ما يستدعي إطلاق رؤية جديدة تجاه كيفية التعامل مع العراق بعيدا عن التصورات النمطية والمذهبية القائمة اليوم. رؤية تعيد بناء العلاقات مع العراق على أساس المصلحة وبما يتجاوز كلا من إيران وتركيا هناك، وبما يعيد العراق للدائرة العربية (وإن ظل عراقا شيعيا) فالعروبة هنا لا المذهب هي ما سيمثل الجسر الذي يعبر بنا للعراق مجددا.