أمثولة الراعي والذئب التي قرأناها على المقعد الدراسي. هذه الحكاية في وجهها السائر الذي يقتصّ من الكذّاب ويلقى جزاءه العادل ويثبّت قيمة الصدق في فضاء التعامل الاجتماعي. ماذا لو كانت الحكاية لها وجهٌ آخر غير الذي جاء إلينا عبر الشهود وعبر المشاركين أطرافاً تنسج القيمة ونقيضها؟
في عودة الأدب إلى كنز هذه الأمثولات والحكايات ثمّة مساحات تغري بالاستعادة والإحياء والاستئناف على سبيل استكشاف الوجه الآخر. لماجد الثبيتي في كتابه "الفهرست وقصص أخرى" شيءٌ من هذا القبيل.. من الاسترجاع ليس بحثاً عن المضمر. إنما مراجعة لقيمة سلبية وكيف تلتصق بالطرف الضعيف ويتبرّأ منها القوي الماسك بزمام القول والشهادة وقبل ذلك المتمكن اجتماعيّا من الصدارة بفضل امتلاكه القوّة الاقتصادية التي تتيح له الظهور والتحكم والانفلات من المآزق أمام ضمير الاستجواب الفردي والجمعي.
قصة "الراعي والذئب ـ ما حدث في الكواليس" شاهدٌ على هذا القلب وتسيير منطق الحكاية وفق إرادة القوي. الراعي في الحكاية الأصلية الذي يقتله الضجر ويريد أن يتسلّى بأبناء قريته وأصحاب القطيع الذين يعمل عندهم أجيراً؛ فيفتعل صرخة الاستنجاد من ذئبٍ وهميّ، استخفافاً بهم وتصريفاً للمشهد الجامد أمامه بمدعاة السأم. يخفّون إليه في المرة الأولى ويقابلهم بضحكه واستهزائه. يفعلها ثانية ولم يكن قبالتهم غير وهمِ الذئب وغير رنّات الضحك العالية. الصرخة الثالثة كانت حقيقية وأنياب الذئب في فؤاد الراعي ولحم القطيع. تذهب الصرخة سدى. الآذان ادّعتْ الصمم وتجاهلت الإنقاذ، فتجربة الاستجابة للكذب نجحت مرتين ولا يمكن أن تستمر في النجاح. هذا هو الدرس من جثة الراعي.
ماجد الثبيتي في قصته ينأى عن المسرح وعن أبطاله وشهوده، يدلف إلى الكواليس يعيد ترتيب القصة عن "راعٍ لم يكن كاذباً، لم يكن لديه وقتٌ كافٍ للكذب". مثال للأمانة والحرص وأداء الواجب الذي أتقنه منذ نعومة الأظفار.
إذاً، ما الذي حدث لتخريب هذه الصورة.. واختلاق "كذبة لم يكذبها"؟.. الراعي لم يصرخ طالباً النجدة من الذئب إلا مرة واحدة، وكان صادقاً في صرخته ويعنيها. هنا يبرز "ملاك القطيع" ومعهم تظهر كيفية رسم المشهد من جديد.
هم من تخاذل عن الصرخة، وقعدوا عن مساعدته حتى فتك به الذئب ونشر دماءه شاهدا على الخذلان ووصمة عارٍ توقظ ضمير أهل القرية للسؤال عن النهاية الأليمة للراعي الذي يفتقد المكانة فضلاً عن أن يكون له اسم يتميّز به ويدلّ عليه.
يتواطأ ملاك القطيع على الكذب، ويبتكرون منطقاً يعفي ضمائرهم أمام الجميع عن مصير الراعي، ويحفظ صورتهم في تمام قوّتها.. وليس مثل الطرف الضعيف مجالا للظهور والتبرير. فمن يحفل بالراعي؟! تلك الحكاية الأخرى المتخفيّة في الكواليس التي ينجزها الإبداع والوعي النقدي لما يمرّ ويستخفّ بنا.