لا تقف الثقافة عند إجابة واحدة، وإنما تتجاوز الأجوبة والأسئلة كلها، وتغدو الثقافة نفسها معرضة للتساؤل من حيث مصدرها وامتداداتها ومفهومها قبل ذلك وبعده، ومن هنا فالثقافة التي تعني الكتابة والقراءة في عصر سابق، ليست هي الثقافة التي تعني إتقان اللغة الأجنبية والحديث بها في عصر آخر، كما أنها ليست الثقافة التي تعني التناغم مع مستجدات العالم الحديث، وأن نلتقط مؤشراته وعلاماته الجديدة كما هو شأننا الآن.

ما زلت أتذكر صديقي المتخرج المتخصص في الهندسة، وهو يروي لي طرفته العابرة التي أنهاها منذ قهقه بعدها، وظلَّت تكبر في ذاكرتي، حيث تلد الفكرة أختها، وتظل متعلقا بمكوناتك الفكرية، وإن صغُرَتْ، وبدأتُ أربِّي طرفته لتكون فكرة كبيرة تغالبني.

فقد اشترى صديقي لأطفاله أحد أجهزة الألعاب الحديثة، وقام بتفكيكه، وقراءة دليله، وترجمة بعض مصطلحاته، واجتهد في تركيبه، وأطفاله متشوقون لممارسة طقوسهم البريئة، ولكن صديقي لم يفلح في إكمال توصيلاته، وبعد أن فشل في تفعيل الجهاز، وداهمه النوم، قطع نهم أطفاله، وبدأ بتأجيل ذلك، ووعدهم أن يقوم في الغد بتجهيزه، وبمؤخرة عينه شاهد طفلته الصغيرة تضحك، وتقول بلهجتها المحلية: (يحول بابا ما يعرف)، ولكنه تجاهلها بعد أن رمقها بنظرة حاسمة، وكرر وعده لأطفاله بأنه سيقوم بتركيب الجهاز كاملا صباح الغد.

وفي الصباح، وبمنتهى المفاجأة، يستيقظ صديقي على صراخ أطفاله؛ ليجدهم منهمكين في اللعب، والجهاز بكامل أناقته بين أيديهم، وما زال (الكتالوج) يرقد بجوار وسادته، فقام مستعجلا بعد غافل ابنته الصغيرة، وخرج دون أن يودعهم بعد أن حمل ابتسامته الكبيرة في فمه، وحمل سؤالا واسعاً سرعان ما تخلص منه بعد أن حمَّلني امتداداته.

ما فلسفة الثقافة عندما ترتبط بالزمان والمكان؟! ولماذا يتشابه أبي كثيرا مع جدي مع أن الفارق الزمني بينهما كبير؟ ولماذا نختلف نحن مع أبنائنا مع أن الفارق الزمني بيننا صغير؟

كيف ترتبط الأجيال ببعضها؟ وكيف تختلف؟ وإذا كنا نؤمن بأهمية صلة الوصل بين الأجيال، وان يتعارفوا ويتكاملوا، فما نوع الصلة التي نريدها؟

ما الحساسيات الجديدة التي صنعتها الثقافة والتقنية المعاصرة؟ وإذا كنا فقدنا ما نسميه (طزاجة) الأشياء وبكارتها، فإن بكارة أخرى تولد كل حين في عصرنا الحديث، ودهشة تتجلى كل لحظة.

أسئلة تبدأ ولا تنتهي تجاه حركة الثقافة وتحولاتها التقنية، وأثر ذلك على وعي الناس ولا وعيهم وأنا أتأمّل وأستعيد طرفة صاحبي، وهي تتكرر بأثواب متعددة.

تحمل ابنك وتعده بأن تشتري له جوالاً جديداً، وتمنِّيه طيلة الطريق بذلك، وعندما تصلون إلى الأسواق تجده أعرف منك بها، وبأنواعها، وربما أسعارها، ومناسبتها، وتوفر عروض أخرى، وربما ترتفع بنفسك وثقافتك لتُمْلي على ابنك ما يجب أن يقوم به، أو أن يفعله، أو أن يستعمله من البرامج، وتحذره من السيء الرديء، فتجده أعرف بذلك كله، ثم ينطلق إلى بيان ذلك، وما يصاحبه، وأما إنْ حاولت أن تنتقصه ـ بقصد أو بدون قصد ـ فتشير إلى خطورة هذا أو ذاك من البرامج، أو كيفية التعامل مع برامج النت تجده دون مواربة يقول لك: أنا الذي علمتك على البرنامج، وشرحت لك طريقة الاتصال، أو الحفظ، وما إلى ذلك.

يبدو الفارق بين جيل أبيك وجدك يسيرا لايذكر، وربما كان التلفاز أو الراديو فتنة ذلك الزمن، ومهما اختلف جيلك عن جيل أبيك، فإن الفارق ربما يكون في الفاكس، أو الجوال لاغير، وأما الفارق بين جيلك وجيل ابنك، فإن الخيال لا يحده، فقد انفجرت أبواب العلم والثقافة والتقنية، حتى بدأت تتضح الهوة بينكما. أنت الذي تعلمت على الورقة والقلم، وهو الذي تعلم على الشاشة واللمس، وأنت الذي ما زلت تحتفظ بعشر رسائل ورقية بريدية جاءت من أقصى الدنيا وقتها (ربما تبوك أو جازان أو حتى مصر)، وهو الذي لا يعرف إلا رسائل الـ sms والوسائط المتعددة والبريد الإلكتروني من أنحاء الدنيا، وأنت الذي تعرف وتسمع صوت الورقة وصرير القلم ورائحة أقلام الخط، وهو الذي لا يعرف إلا صوت لوحة المفاتيح ونغمة جهاز الكمبيوتر.

هل يجوز لنا الآن أن نعيد عددا من مسلماتنا الثقافية التي ترعرعنا عليها، وآمنا بها بوصفها قيماً عليا لا يجوز التفكير ـ فضلا عن التشكيك ـ فيها. ما الذي يعنيه أن نحرص كل الحرص على تسمية أبنائنا بأسماء آبائنا، وأن نجعل منها قيمة في سُلّم قيمنا الاجتماعية، وهي وإن كانت سمةً تواضَعَ عليها كثيرون من خلال النظر إليها بوصفها تتميماً للسيرة؛ إلا أنها توحي بأننا نبحث في ملامح أحفادنا عنا وعن تاريخنا أو أهدافنا التي لم نتمكن من تحقيقها، مع العلم أنه من الممكن تكريس فكرة الانطلاق والتحول والإبداع، وأن تتراجع الرؤية التي نلخصها في (ما تورث النار لا رماد) و(الشبل من ذلك الأسد) لنعزز إنتاج إضافات مستقلة تشهد بالعبقرية المتجاوزة لما قبلها.

وهل يمكن لنا أن نؤكد في ظل فورة التقنية والثقافة أنه كلما كنت أصغر كنت أعلم، والذي يصغرك بيوم يكبرك بأعوام من وعي التقنية وتحولات العصر الحاضر، ومن هنا فمفهوم الثقافة يتحول بشكل كبير، ويفرض على العلماء والمربين أن يدركوا منعطفاته وتحولاته. ولعل من الواجب أن نعي بأن لكل عصر ثقافته، وأن المجتمع المعاصر ـ السعودي خاصة ـ يشكل الشباب فيه نسباً عالية، وشريحتهم في ازدياد، ولذا فلهم الحق في أن يحضروا في كل قضايانا وخياراتنا الثقافية والتنموية، وبذا نستذكر موقف العقاد من قصيدة التفعيلة حين أحالها إلى لجنة النثر، فرد عليه أحمد حجازي بقصيدة عمودية يقول في أحد مضامينها: إنك تعيش في عصرنا، فاحترم خياراتنا، وكأنه يقول له: أنت ضيف على عصرنا. إنها الثقافة، وهي التي لاتكتفي بامتلاك الإجابة، وإنما تتألق بطرح الأسئلة، ولذا تنمو مفاهيمها وتتحول مساراتها، مما يؤكد على أن الوعي والمعرفة والحوار هي القيم العليا التي يجب أن تسود، وأن تحيط بالعلم والعرف والتاريخ والاختلاف.


عبدالله الوشمي

رئيس النادي الأدبي في الرياض