أمنا الأرض، نعم كانت تلك الأرض هي الأم أو كالأم الحنون فعلا، وحقا كان رجال القرية بارين بهذه الأرض إلى أقصى درجة ممكنة، وهذا طبعي فمنها غذاء معيشتهم التي بها بقاء حياتهم وأولادهم..

يبدأ يومهم في هذه الأرض قبيل طلوع الشمس حيث تنهض الأسرة حين تطمئن أن موسم الغرس قد أذن وتكون الأرض قد ارتوت قبل ذلك، ليبدأ الجميع اشتمام رائحة الأرض.

تلك (الحراثة) تبدأ عملها والوالد بالطبع ينفح الحب ويرميه في الأرض لتقوم (الحراثة) بتقليبه إلى باطن الأرض.

كان أحمد يتابع المشاهد بكل تفاصيلها ويشتم هو الآخر رائحة الأرض حين يسابق مع الشروق ليأخذ مكانه على أطراف البلاد ويتابعها بروحه وهي ترتفع حتى تصبح سنابل تسر الناظرين.

يباكر كل صباح هذه الأرض ليرتقي على (سهوة) وسط البلاد الزارعية، صحيح أنه لا يملك من أمره شيئا، فلا هو يستطيع أن يدفع أسراب الطير التي تمر من فوق رأسه لالتقاط الحب من السنابل، ولا هو بالطبع يستطيع أن يدفع أسراب القرود القادمة من الجبل؛ لكنه يحضر ليشارك في خدمة أمه الأرض التي تمثل مصدر عيشهم الوحيد..

لا بأس بالنزول من أعلى (السهوة) فقد حان موعد (القروع) الذي أرسلته الأم في (الزنبيل) لا شيء في الفطور مختلف يتوقعه أحمد لكنه في كل حال بأمس الشوق إلى رائحة (الخمير) والبر المنبعث من أطراف ذلك الزنبيل الذي تعبر رائحته خياشيم قلبه قبل وصوله، مع ما يصاحب ذلك من (قطيبة) وهي إدام من اللبن الذي يخلط بالبهارات والثوم يشكل ثنائية خطيرة مع الخمير، أما إدام البر فهو الصلصة وهي معجون الطماطم مع البصل.. وإن صاحبة (بكرج) قهوة وثلاجة (شاهي) فهذا حسن على حسن.

يشعر أحمد بمتعة متناهية في الفطور الذي يُطرح في ظل شجرة السدر المطلة على البلاد. يستمتع كثيرا باشتمام الروائح المنبعثة من روح الطين والأرض لتملأ روحه بالبهجة، يشاهد البلاد وهي تميد بسنابل القمح، وأصوات الطيور التي تشاركهم الفرحة مع شيء من الشغب أحيانا قد تضيق به النفس وهي تسابق لأكل المحصول الذي تنتظره الأسرة بجمعها فلا يملك أحمد إلا أن يأخذ (المفقاع) الذي صنعه عمه ويلتوي به ليشكل صوت فرقعة تذهب بها الطير بعيدا لكنها لا تلبث أن تعود، ويبدو أنها لن تذهب إلا بالـ(مرجمة) التي يضع فيها حجرا ويرمي به فتصيب من تصيب ويذهب الطير ولكنه يأبى بعد كل ذلك إلا أن يعود...!

إنها الآن تعجب الزراع وهي آيلة للحصاد.. بدأ والد أحمد يعد الأيام وهو أشد حرصا على هذه الأرض من الفاتكين، فهو قلما ينام الليل حرصا على تلك الغلة التي تبشر بها الأرض. فهو يخشى عليها وقد أوشك على الحصاد من الفاتكين من البشر أو من الخنازير التي تستغل الظلام لتبدأ بالعبث في الأرض.

حان وقت الحصاد، القبيلة كلها تشارك في أعماله، شبان القرية يتهيؤون لحصد الزرع، وفتيات القرية هن الأخريات يتهيأن لمتابعة الشبان بقطف السنابل (العذوق) وجمعها في (الزنابيل) الكبيرة ووضعها على (مهجان) في طرف (الزهب).

ها هم الشباب يتحركون في الصباح الباكر قبل الشروق ليبدؤوا جولة أولى من حصد الزرع حيث يبدأ كل واحد يعمل على (مسطاره) الممتد على طول الزرع ويقوم بحصد الزرع بطريقة مستقيمة حيث تكون السنابل مستوية في سطر واحد تمر عليه الفتيات بعد ذلك لقطفه وتجميعه على بسط قد وضعت لذلك، ليحملها الوالد بعد ذلك مع مجموعة من رجال القرية إلى البيدر (الجرين) فيقوم ليلا بتجهيز (الثيران) القوية التي تدوس بأقدامها تلك (العذوق) ليخرج الحب من السنابل ثم يقوم الوالد بإزالة العذوق الخالية (العزمة) ليبقى الحب وحده وتبدأ مرحلة التصفية للحب، حيث يستغل الوالد حركة الهواء ليذرو الحب في طريقه فيذهب (الحمق) الذي يحيط بتلك الحبوب ويبقى الحب صافيا يبدأ توزيعه في الأكياس المعدة لذلك ويودع في المخازن لتكتفي به الأسرة ويكف حاجتها لمدة تطول أو تقصر وربما ذهب الوالد ببعضه لسوق (الاثنين) فيبيعه ويشتري بقيمته بعض مستلزمات المنزل..

خروج:

"أمك الأرض لما تزل مثل عينيك طازجة الشهوات.." عبدالعزيز المقالح

 


عبدالرحمن المحسني

شاعر وناقد