ما يحدث في لبنان وصفه مثقف لبناني قديم بأنه "مشهد سوريالي". لا يمكنك فهم شيء، مع أن بإمكانك سماع كل شيء. كل شيء وارد. وكل شيء غير وارد. من المصالحة التامة، إلى الحرب الأهلية. الخطابات المتوترة هذه الأيام تهدد السياحة التي ازدهرت في لبنان خلال السنة الماضية، وتحديداً منذ اتفاق الدوحة. لن أقع في مآزق تحليل السياسة في لبنان، فهو أمر ممل ويكفي أن لدى اللبنانيين في الصحف عشرات المقالات والتحليلات السياسية. وأهل مكة أدرى بشعابها. لكنني سأتحدث عن حالة منع فيروز من الغناء بسبب خلاف داخل بيت الرحابنة ذاته.

استضاف برنامج "بانوراما" الإخباري على قناة "العربية" أحد المعنيين الرئيسيين بموضوع منع فيروز من الغناء بسبب مطالباته المادية تحت اسم حقوق الملكية الفكرية. كان المشهد مؤسفاً، أن يتحول خلاف بين أسامة الرحباني وزوجة عمه فيروز إلى حديث فضائي. ليست المشكلة في هل الحقوق الملكية التي يطالب بها ورثة منصور أسرة عاصي صحيحة أم خاطئة، بل المزعج هو هذا الانكسار في قصر الرحابنة الذي طالما كان قصراً ذهبياً مهيباً، وحرّك الأغنية العربية وأسس لمسار غنائي فريد يجمع بين لذة الأذن وعمق وقعه على الروح.

الكارثة أن أسامة الرحباني بوصفه الناطق عن ورثة منصور لم يستطع التحدث بشكل فني أثناء مداخلته، اقتصرت المداخلة على المطالبة المادية البحتة بحصّة من إبداعات وحفلات فيروز!

هذا ما لم تستطع الجماهير أن تستوعبه. أن تظهر مشكلة عائلية لعائلة مرموقة صارت مضرب المثل في الفن العريق لتنشر الغسيل على الملأ. وأجزم لو أن الأخوين العظيمين "منصور، وعاصي" كانا على قيد الحياة لاعتبرا هذه الحالة من الهياج المادي والاندفاع نحو مقاسمة فيروز مقبوضاتها الفنية باسم الملكية الفكرية عبارة عن عار وتلطيخ لاسم الأخوين اللذين أسسا لجمهورية الأغنية القصيرة السعيدة الفرحة الغارفة من مختلف تراث الموسيقى البشري من الموسيقى الألمانية إلى الإسبانية إلى الروسية.

إنه بالفعل اغتيال لآخر صروح لبنان الشامخة، إنه اغتيال لاسم فيروز، ولإرث الرحابنة الذي تحوّل إلى نزاع محتدم بين الورثة على الجناحين وضحيته فيروز.

قال أبو عبدالله غفر الله له: ولئن أفسدت السياسة أرصفة العيش في لبنان وأرغفته، غير أن الفنون الجمالية التي كانت بحوزة اللبنانيين هي الكنز الأعظم، ولعل فيروز الفنانة ـ التي تعالت على كل الألقاب وتحولت إلى صوت يأتي من أغوار الروح ويناجي أعمق انفعالات الإنسان ـ آخر اختبار للبنانيين، هل سيحولون فيروز إلى المحاكم؟ هل سيفرغون الساحة لفنانات الميوعة والسخف؟

هذا ما نتمنى أن لا نراه في لبنان، البلد الأصغر، والأكثر حيوية، والأكثر حضوراً في المشهد الإعلامي.