إن الشخصية العربية تخاف الأشباح، هكذا في تكوينها كما في تكوين الثقافة الإنسانية بصفة عامة. وللمعتقد الشعبي دور كبير في ترسيخ هذا المفهوم؛ لأنه مبني على الخوف الدائم من المجهول.

يُعَرَّف الشبح Poltergeist في التراث الشعبي والماورائيات على أنه "تجلي لكيان خفي لكنه مزعج أو مخرب أو مفتعِل للضوضاء"، ومعظم ما يحدث في أرجاء وطننا العربي من ضجيج وفوضى يكمن في ظهور هذه الشبحية غير المرئية بطبيعة الحال، إذ وجب تبين الرؤية في طريق مظلم لا يكتنفه سوى بصيص ضئيل من الضوء الخافت.

وفي ضوء التسارع الزمني اللاهث وراء اللحظة في حساب الزمن العالمي المتسارع نحو وضع غير معروف لدى الكثير من أبناء العالم الواحد كما أطلقو عليه، أو بمعنى أدق لدى أبناء المنطقة العربية، تظهر هذه الشبحية معتمدة على تراجع الوعي المعرفي لدى الفرد منا، وهي من وجهة نظري أزمة الفكر العربي المعاصر (أزمة الوعي)، حيث تصل بالفرد إلى حد أنه يعي ويعرف وينبري ويقاتل بشتى الوسائل، من أجل إعلاء شارات الرفض، إما لوجاهة يرنو إليها أو لمنبر يعتليه لتدوين صوته في أوراق التاريخ ليس إلا، وللرفض شأنه وإيجابياته وعالمه الزاهر المتفتق من رحم الحرية، ولكن يجب ألا نعلن رفضنا لأمر ما إلا حين نعرف ما نريد، فنحن نعرف كيف نرفض، ولكن لا نعرف ماذا نريد، وهنا تكمن المشكلة.

ومن هنا نجد هنات في الإيقاع العام لدى العربي بالنسبة للإيقاع العام العالمي، إما بالتسارع وإما بالتباطؤ، في زمن تحكمه سيمفونية واحدة بإيقاع يجب أن يكون متسقا، وبدون نغمة نشاز، فكأننا نتلمس الطريق نحو ما يكون وما يجب أن يكون، في نوع من التحفز والبغض وبدون طريق مرسومة أو ممهدة لقدمين تضع أولى خطواتها على أولى درجات تبين الرؤية، فـ"الأفكار والحوادث تحتاج إلى طريق للترجل وحث الخطى"، وبذلك يتأتى هاجس الشبحية، إلا أننا نرى أن شبحية الفكر تحوي في ثناياها هذا الهاجس "وعورة الطريق" بالذات، وإن كان هو أول تبين درجات الرؤية لتشبح الأفق.

ولقد أثبتت الدراسات الاجتماعية والسياسية والثقافية، مدى أهمية دور النخبة في تمهيد الطرق والطرائق لخطوات شعوبهم المسماة بـ"الكتلة المجتمعية"، وهنا يتحتم ذلك الدور الهام على النخبة في رفع تلك الكتلة عن طريق ما يسمى بـ mass mind control السيطرة على العقل الجمعي، وإن لم يتأت لهاـ "أي النخبة"ـ رفعها لسقطت عليها وأهلكتها.

وما نراه في واقع عالمنا العربي بثقافته المعاصرة، وبما تضج به جنباته من فكر معاصر، هو تراجع النخبة وتقهقر دورها - الذي يتحتم أن يكون فعالا - لتتسيد المشهد ثقافة الكتلة فيما نسميه بـ"ثقافة الإزاحة".

ولقد لاح لي في الأفق هذا التشظي في التكوين المجتمعي، قبل ظهور ما يسمى بثورات الربيع العربي بسنوات، نتاج كسر الجسور بين النخبة والكتلة، فألفت كتاب "حكمة النقد بين الأُنس والاغتراب" في إطار موسوعي؛ كي أسبر أغوار هذه المشكلة الخطيرة، مما حملني مدة عامين كاملين على مطاردة هذه الأشباح عبر النظريات الفكرية والنقدية عبر العصور منذ ما قبل الميلاد حتى آخر النظريات، وانعكاسها على بناء الشخصية في مجتمعنا، فيما يقرب من 1500 صفحة تمخضت عنها تلك الهوة بين الكتلة والنخبة، مما أعطى الفرصة سانحة لثقافة النزوح أو ثقافة الإزاحة، فكان كبش الفداء هو الوعي المعرفي، وتمهيد الطريق للشبحية والفوضى.

قد يبدو الأمر بسيطا، والعالم رائعا، والنهر ينساب بسلاسة ويسر، ولكن علينا أن ندرك أن ثمة موجات هادرة تكمن تحت سطح المياه طيلة الوقت، وعلينا أن نحسب حسابها، ولا ننخدع بزرقتها وانعكاس ضوء القمر على لجتها العاكسة مهما كانت آسرة؛ لأننا أمام زمن وعالم يجري كله أمام أعيننا في لحظة واحدة، بمعنى أن الزمن أصبح مشتركا على مستوى العالم، واللحظة مشتركة، وهو أمر مقلق من أن يفلت منا أوار طيش الزمن دون أن نعرف أن "الساعة تزحف سريعا وسوف تدق في منتصف الليل لا محالة".

من المعروف أنه كلما زاد الجهل المعرفي - وأعني أمية المعرفة ولا أقصد أمية القراءة والكتابة لأن الأولى أدهى وأشد خطرا - زاد ظهور الأشباح وانفتحت منافذ البيت الواحد لأطياف لا يعلمها إلا الله.

في القرن السادس عشر الميلادي، كتب وليم شكسبير على لسان هاملت: "ما الدنيا؟ إن هي إلا جُماع الأدوار التي نلعبها، فما الدنيا إلا مسرح كبير". أي أن الحياة هي مجموع الأدوار التي يؤديها كل إنسان، وحينما ظهر الشبح أو الطيف إلى "هاملت" ليطالبه بالقصاص، فهل كان هذا الشبح أو الطيف خيالا من خيالات "هاملت" كما فسره بعض النقاد؟ أم أنه روح معذبة تطالبه بالقصاص؟ وما "هاملت" سوى رجل اختلت أمامه الموازين، فظهر شبحه أمامه وتجسدت مخاوفه من هذا الطيف، وكذلك الإنسان في القرن الحادي والعشرين، فكل منا له شبحه أو مخاوفه المتجسدة أو هاجسه الذي يقض مضجعة. فهناك الهاجس أو الشبحية السياسية أو الشبحية الثقافية، وهناك الشبحية العقائدية، وأطياف أخرى تلوح في الأفق، إذا ما انعدم الوعي واشتدت أزمته، حينها نحضر الدجالين والمتشدقين وأنصاف المتثاقفين، وتمتلئ الساحة من كل حدب وصوب، ينسلون لصرف الأشباح فقط إذا ما غاب العلم وغاب الوعي وغابت المعرفة، والتي هي صمام هذا البيت من الاختراق المدجن إن جاز التعبير. فالنخبة هي من ترفع عماد هذا البيت، إلا أننا نجدها تتوارى خلف هذا الزحف "الكتلي"، فكما يقول محمد حسنين هيكل: "سوف نستيقظ ذات يوم فلا نجد نخبا"!!.

وكما أسلفنا إذا ما انعدمت النخب، سادت الأشباح والضـوضاء؛ لأن أعمدة المـجتمع قد انـصرفت مع أول لحـظة وسن.