طالب فداع الشريم


لا أحد أولى من غيره في ممارسة النقد، إذ أصبحنا نعيش في وسط تتكاثر فيه النجوم المبهرجة بأضواء المتابعين.. نجوم أرضية بأرقام وإحصائيات تنافس بعددها نجوم السماء.. ولكن السؤال الذي يجب أن تكون له إجابة: هو أي بضاعة يحمل هؤلاء؟ وما القيمة التي يقدمونها لمجتمعهم؟ في الوقت الذي يقبع الحال الجمعي في مؤخرة الأمم عملاً، وإن زخرت موروثاته بالقيم الكفيلة بانتشاله من الوهن الراهن إلى الريادة المنشودة!.

توجد لدينا وفرة وسائل، وضمور قيمة، فالوسائل الإلكترونية ومنها قنوات التلفزة الفضائية، والإذاعات المسموعة، والصحف المقروءه، وشبكات التواصل الاجتماعي، تتكاثر بشكل لحظي، مما يشرع للأسئلة أن تكون حاضرة لتتلمس لنا نوعية المواد التي تعنى بها وقيمتها، ومنهجيتها، ومدى تأثيرها على تحويل وتشييد الفكر العام. لا أرى من وجهة نظري البسيطة أن تلك الوسائل قد قدمت أو ستقدم مستقبلاً عملاً تنويرياً مؤثراً للارتقاء العام بالفكر، والقيام بدور تثقيفي للمجتمع! بسبب أن الدور المعلن لتلك الوسائل والمؤسسات الإعلامية هو الدور التثقيفي، ولا يمكن أن تصل لهذا الهدف ما بقيت أسيرة الانتماء الذي يقف بمسافة طويلة وينتهي قبل الوصول لذلك الحصن العصي! إذ يجب أن تخرج أولاً من حضن السلامة، وأن تبذل الجهد لتمحيص الآراء المقولبة، والمقولات الذائعة، وأن تكسر حجاب القوقعة، وتحطم زجاج الصورة النمطية لكلمة "مثقف" التي ارتبطت ذهنياً بـ"برج عاجي"، يقول رايموند وليامز في كتابه "كلمات أساسية": (ظلت الاستعمالات السلبية لكلمات مثل المثقفين، والنزعة الفكرية، والصفوة من المثقفين سائدة حتى منتصف القرن العشرين، وهذا سبب "للاستهزاء" والتندر).

لقد أصبح الوصول لصفوف ما يطلق عليهم النخب أو الصفوة أول مسامير نعش الحقيقة، إذ تدرج ضمن هؤلاء وتنتهي رحلتها داخل أسوارهم! وهنا يصبح هذا الكائن بذاته سبباً وعائقاً وحاجباً لنهضة المجتمع من خلال وقوف الحقيقة على شرفة لسانه هو فقط! وبالتالي يجب على أفراد المجتمع تعطيل عقولهم والاكتفاء بهديه ورؤيته! وقد نجحت هذه النماذج وما زالت تتكسب بعقول العامة، وتنتفع بامتلاك الحقيقة! ويحصل التعاضد والتجاوز من وإلى هؤلاء فيما بينهم! إذ لا يمكن لمن يشتغل بالفكر ألا يجد من يختلف معه.. فكلما ساد السلم بين هؤلاء فاعلم أنها لا تعدو أن تكون لديهم إلا مجرد مهنة وغنيمة! وتخرج من سلطتها السلوكية التي تجري في فيض الخيال العقلي المتجرد من الاتباع، المشبع بفضاءات الخواطر المتفردة والصريحة! وحتى نقرب الصورة، ونبسط المعنى، دعونا نتساءل لماذا لا تحدث مواجهات، ومساجلات بين الوسائل الإعلامية المختلفة، مرئي ومقروء ومسموع حول رؤاها إن كانت تقدم فكرا؟ ولماذا لم يعفر مفكرو هذا العصر أطروحاتهم بالمناظرات فيما بينهم؟ أم هي أسرار مكشوفة فيما بينهم ولا يراد كشفها للجمهور الاسفنجي الذي يستقبل السوائل بعلاتها!. لماذا نرى اختلافهم الفكري يظهر باستحياء وخجل ويختفي بسرعة، مما يبين مدى الحرص على عدم المواجهة.. إن هذا التوجس وهذا الخوف من المواجهات الفكرية هما اللذان يؤسسان الفكر المجتمعي الأحادي، وبالتالي مصادرة حق النقد المكفول لكل من لديه عقل يعقل.